معتز حجاج يكتب: خذوا الحكمة من نظرات السائقين

هدوء لا ينذر بخير، هذا ما وقر في قلبي منذ أن وطأت قدماي أرض موقف الميكروباص ذات صباح، تأكد حدسي عندما استقليت السيارة بجوار السائق، فتقدم نحونا بلطجي الموقف الشهير، وبدون أي نقاش فتح كفه، فوضع السائق بها ثلاثة جنيهات إتاوة، لم يكن المشهد مفاجئ بالنسبة ليّ، لكنه اختلف عن ذي قبل قليلا، فلم أعهد على \”علي\” السائق، الذي اعتدت أن يصطحبني كل صباح من محل إقامتي إلى وسط البلد، وجهتي المعتادة يوميا، هذا التسليم السريع بقيمة الإتاوة، فهو كثيرا ما يجادل البلطجي في دفعها، مرة بحجة أنها أول \”فردة\”، أي أول دور له بالموقف، أو أنه سلمها لمعاونه فور قدومه، أو أي شيء من هذه المبررات التي تجعله يهرب من دفع دور أو اثنين.

بدت عليّ أمارات الإندهاش من جراء هذه الطواعية غير المعهودة عليه، فدنوت منه سائلا إياه عن سر هذا الهدوء العجيب غير المعتاد، فأشار ناحية ميكروباص مهشم الزجاج والمصابيح، ثم أسر لي – وسيارتنا تندفع بعيدا عن الموقف- عن حادث أليم وقع بالأمس لأحد السائقين الفارين من الإتاوة.. كسر في الحوض وإرتجاج في المخ، كانت هذه الإصابات التي أحدثها البلطجي بالسائق المتحذلق كفيلة بإعادة فرض الضوابط والقوانين المستقرة منذ زمن بالموقف، والتي يبدو أن بعضهم تناساها تحت تأثير حلم البلطجي ورحمته.
قلت له ناصحا، إنه لابد من إخبار الشرطة كي يزيحوا عنكم هذا البلاء، فرد بكلمات قصرة، لكنها نافذة البصيرة \”أمين الشرطة كان أحد المتطوعين بفك الإشتباك بالحسنى، ولو فُرض أنه ألقى القبض عليه، فمن ذا يدريك أن الله لن يبتلينا بغيره، وإن لم يبتلينا، فهم ليسوا أقل تجبرا علينا من ضباط الشرطة وأمنائها وأفرادها\”، فانزعجت لكلماته وهو الداعم الدائم للاستقرار، والحفاظ على مؤسسات الوطن، والاصطفاف خلف قائدها، فحاولت أن أراجعه فيما أعلن – عن غير قصد- أثناء ثورة غضب لعلها تكون عابرة، ونوهت بأن الشرطة تحاول جاهدة فرض الأمن، لكن الإرهاب لم يدع لها مساحة من الوقت كافية لذلك، فقاطعني قائلا: \”منذ متى وأنت تطلب النجدة عندما تتعرض لاعتداء، أو تذهب إليها شاكيا سرقة هاتفك النقال مثلا؟!\”، هكذا \”علي\” دائما ينهي النقاش بجمل تعقد لسان محاوريه، فوليت وجهي صوب شاطئ الإسكندرية هرب من هذا الإفحام الصباحي.
في الفيلم المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ \”ثرثرة فوق النيل\”، والذي يحمل نفس الاسم، جاء على لسان أستاذ أنيس زكي، الشخصية التي لعب دورها الفنان الراحل عماد حمدي، صرخة استهجان من غياب العدالة لصالح قانون الغابة، الذي أصبح عرفا سائدا غير مكتوب منذ إنقلاب يوليو حتى موعد عرض الفيلم في السينما عام 1971:
إزاى ده؟! سنية مع علي وليلى مع خالد وسناء مع رجب.. ويعملوا اللي على كيفهم وما حدش يكلمهم.. طب ليه.. طب ليه؟!

عشان الستات بنات عائلات.. والرجالة مناصبهم حساسة ومفيش داعي للشوشرة.. إنما إذا واحدة من إياهم مشيت فى الشارع بالليل، بوليس الأداب يمسكها.. هو اللي بتعمله دي مش زي اللى بيعمله دول.. ولا هو القانون ما بيتطبقش إلا على الناس الغلابة.. الظاهر.. الظاهر القانون اتجنن!
حتى يومنا هذا لم تصل صرخة الراحل عماد حمدي إلى مسامع كبار المسؤولين.. غاب عن أعينا مشهد الشاويش الذي يتابع إستتباب الأمن أثناء الليل، وما إن ينادي عليه مواطن ما، يكون أمامه في غضون لحظات، قائلا جملته الشهيرة بلهجة صعيدية: \”إنجر جُدامي على الجسم\”، أصبح أقصى طموحاتنا اليوم أن يجيبوا فقط على أرقام النجدة، واحتلت شاشات السينما مشاهد جديدة لرجل الأمن الخارج عن القانون، المستقوي بنفوذه وسلطته خلفا لشاويش الخمسينيات، حتى أصبحت معظم حبكات الأفلام تدور حول رجل أعمال فاسد، وضابط ظالم، ومواطن مقهور.
لا يمكننا أن نلقي باللوم كله على عهد مبارك وحده، فقد ورث تركة دولة يوليو ذات شبكات الفساد الواسعة، تضخمت بعد أن أجرى عليها مبارك بعض التعديلات، وتحولت مؤسسات الدولة وأجهزتها لإقطاعيات وطوائف وجماعات مصالح بالمعنى الحرفي، جزر معزولة عن باقي الشعب، تخدم مصالحها المباشرة، ومصالح طبقة المستوطنين الجدد، أعني بهم هنا سكان الكمباوندات والأحياء الآمنة، في حين ترك ما تبقى من الوطن خارج السيادة، لا يسري عليه قانون، حكمت طوال ثلاثين عاما – مع إنفجار العشوائيات- بشبكات واسعة من البلطجية، الوسيط بينها وبين الدولة جهاز الشرطة، يستخدمونهم إذا ما تطلب حماية النظام والمستفيدين منه ذلك.
هذا الأمر صار معروفا للجميع بخلاف مواقفهم وإنحيازاتهم، لكن ما جد هذه الأيام أن العباءة التي كانت تضفي على الدولة والمنتفعين مظهر القانون، قد سقطت.. الشرطة تقتل وتستعمل لفظ \”تصفية\” كعصابات المافيا في بياناتها الرسمية، والقضاء يبرأ ساحتها، والإعلام يطبل، ورأس المال يدعم، وبين الحين والآخر يحدث بينهم خلافات على أولوية السيادة، وكل من هم خارج الفئات الآمنة في بلد تحكمها المافيا، يعلمون هذه الحقيقة مهما اختلفوا في الحلول وطرق النجاة، وتحت سياط أمرهم الواقع ضاعت خفة الدم المميزة للمصريين.
فحتى \”علي\” الذي اعتدت في حديثي معه أن أقوم بدور فلول حتى النخاع كنوع من الدعابة، حاولت أن أهنأه صباح أول أمس راسما على وجهي علامات الجدية بوصول المستشار \”الزند\” – رجل القانون والمبادئ-  لوزارة العدل، فعاجلني بنظرة احترق لها نصف وجهي المقابل له، وفهمت منها أن مصير زميله السائق بات قريبا مني إلى حد كبير.

\”علي\” المُصطف دائما خلف أي قائد لسفينة الوطن، هو أيضا لم يعد يحتمل لأحلام دولة القانون والعدل ذكرا، أو أن دعابتي أصبحت لديه لا تختلف كثيرا عن سخافات الخليل كوميدي.. أصل الضحكة في مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top