حسام الخولي يكتب: حديقة الأنماط.. الموظفون في الثلاجة

يتربع هذا النمط بشكل خاص على عرش القوالب المتكررة في السينما المصرية.. وسنلقي نظرة على الأسباب بعد قليل.

من بين كل العناصر التي تتكون منها شخصية الموظف، وتؤثر فيها، فإن أحدها يتمايز بوضوح شديد, وحتى في المواقف التي لا تستدعي حضوره، فإنه هناك في الخلفية يتحكم تقريبا بكل ما وما لا تفعله تلك الشخصية . ألا وهو الخوف.. الخوف صنو الوظيفة بشكل عضوي تقريبا، ومن منا لم يشاهده أو يلاحظه هناك بين السطور أو عيانا واضحا في تعامله مع الموظفين (الحكوميين بالذات بطبيعة الحال), ومن منا لم يشعر به، هو شخصيا بشكل يومي أحيانا، إن كنا ننتمي لهذه الفئة الظالمة والمظلومة علي حد سواء.. الخوف من المدير السخيف المؤذي أو من العقاب على الأخطاء، أو من اكتشاف مخالفة ما، سواء متعمدة أو تسبب فيها الإهمال.. الخوف من مستقبل غير مؤمن بسبب الدخل الهزيل وتقلبات الدهر والقرارات الفوقية التي تنزل عليهم نزول الأوبئة التوراتية وغيرها من الأسباب.

ولا يمكن الحديث عن هذه النقطة بدون التطرق إلى قصة العظيم \”أنطون تشيخوف\” بعنوان \”موت موظف\”، التي جسدت هذا المعني ببراعة وبساطة، حيث يقوم الموظف الشاب مرة بعد أخرى بمحاولة الاعتذار لأحد الجنرالات الكبار بسبب قيامه بالعطس في قفاه أثناء حضور مسرحية, حتى يتلقى ردة فعل عنيفة من الجنرال الذي سئم من محاولات الاعتذار المتكررة اللزجة تلك، فينتهي الأمر بالموظف أن يموت بسبب الخوف والاكتئاب لعجزه عن الاعتذار بشكل لائق.

إلى جانب الخوف هناك نجد بطبيعة الحال قدرا كبيرا من اللامبالاة.. التملق والتزلف للدرجات الأعلى في السلم الوظيفي.. أداء العبقري \”فؤاد المهندس\” في \”أرض النفاق\”، كان نقطة فاصلة في استخدام هذا الأمر بشكل ساخر.

هناك التمسك العنيف بحرفية وروتينية القواعد واللوائح والعجز التام عن إتخاذ القرارات بشكل مستقل أو التفكير بدون تعليمات مسبقة.. نجد أيضا لدينا أساتذة تمثيل التصق أداؤهم بذاكراتنا بسبب هذا النوع من الشخصيات منهم \”شفيق نور الدين\” ومنهم من سجن بشكل شبه حصري في هذا الدور مثل \”رأفت فهيم\”، الذي اشتهر بعبارته الخالدة: \”فوت علينا بكرة يا سيد\”.. \”أسامة عباس\” الذي وضع علامته الشخصية على نمط الموظف المتملق المنافق، وغيرهم الكثيرون.. لم يتم كسر الشكل التقليدي لهذا النمط، إلا في حالات محدودة ربما كان أشهرها دور \”عماد حمدي\” الرائع تجسيدا للموظف العدمى اللامبالي بانتقادات رؤسائه بسبب إهماله وإدمانه للمخدرات في فيلم \”ثرثرة فوق النيل\”.

أما لماذا يتكرر هذا النمط كثيرا لدينا على خلاف الفيلم الغربي, لأمر لا يستعصي على الاستنتاج، فنحن فعليا أمة من الموظفين.. ليس فقط في المصالح الحكومية ودواوين الوزارات. منذ فجر التاريخ والمصريون يتنفسون تراب الميري ويغمسون به لقمة عيشهم.. بداية من الكاتب الجالس لدى الفرعون، حتى الفلاح في أرضه التي كان طيلة تاريخه يعمل بها ولا يمتلكها، سواء كان لدى الفرعون أو الخليفة أو الوالي أو الإقطاعي أو بنك التسليف الزراعي.

الوظيفة شكلت النمط الاجتماعي الأكثر شيوعا واستقرارا واحتراما مع صعود الطبقة المتوسطة في موجتين كبيرتين مع \”محمد علي\” و\”جمال عبد الناصر\”، وانعكس هذا على الشكل الذي صورتها به السينما حتى الستينيات، وصارت من الأشكال الأكثر مدعاة للشفقة والرثاء بعد طوفان الانفتاح الساداتي وانفلات النداهة البترولية القادمة من الشرق في السبعينيات، وحتى هذه اللحظة.

ومع منتصف التسعينيات وبداية الحضور الكبير للشركات عابرة القارات، تواجدت أشكال وأنماط جديدة من الموظفين – للأسف لم تقدر بشكل كامل (أو على الإطلاق)- على التخلص من الجينات السلبية المتأصلة للموظف المصري الباقية من آلاف السنين، لكن سينمانا لم تتمكن من الإحاطة حتي الآن بهذه الثقافة الهجينة الممسوخة ما بين طرق التفكير والإدارة الغربية والتقاليد الوظيفية العريقة والعقيمة لدينا.

في السينما الغربية أيضا نماذج مشابهة، لكن  الضوء هناك يأتي من زوايا مختلفة، مثل التوتر الشديد الذي تسببه الحياة الروتينية، وهناك تعبير صك من سنين Going Postal ، وهو يرمز للموظف الذي يصيبه الجنون بسبب الانسحاق تحت وطأة هذه المادية الروتينية والعبودية المقنعة، ويقوم بارتكاب أعمال عنيفة تبدأ من إثارة الفوضى، ولا تنتهي عند القتل.. فيلم Wanted  نموذج كاريكاتيري لهذا، ويظهر وجهها الكوميدي في أفلام مثل  Horrible Boses    و Office Space .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top