د. أشرف الصباغ يكتب: ريش وزهرة البستان بين التسلق الطبقي وتزييف الوعي

من الطبيعي أن يختبئ الروائي خلف الشخصيات، وفقا لأدوات نقدية كلاسيكية. لكن أن يظل الإنسان يختبئ خلف الأكليشيهات والأشكال التقليدية المبتذلة، معوضا ذلك بالظهور بكلمات منمقة، وصناعة تأريخات وهمية، فهذا يدعو قليلا إلى إثارة تساؤلات قديمة مثل العالم.

من المعروف أن 95% من الذين جلسوا على مقهى ريش، هم أنفسهم الذين بدأوا حياتهم بالجلوس على قهوة زهرة البستان التي يفصلها ممر لا يتعدى طوله 100 متر عن ريش. وغالبية زبائن المقهى والقهوة التقوا في مطلع حياتهم في \”ستلا\”، وتجولوا بين \”الجريون\” و\”الكوزموبوليتان\” وبعض الأماكن الأخرى الأقدم تاريخيا والجديرة بالتأريخ وبرصد العلاقة بينها وبين تنوع الثقافة المصرية وأجيال المثقفين والمبدعين، وحركة الثقافة والسياسة ولقاءات أعضاء التنظيمات والأحزاب السرية والعلنية.

إن كل زبائن مقهى ريش تقريبا هم أنفسهم كبار الكتاب والشعراء والمسرحيين والسينمائيين والمفكرين والموسيقيين والمناضلين السياسيين الذين مروا بزهرة البستان وقضوا بها مراحل من حياتهم. فنجيب محفوظ أدار عليها بعض الندوات، لكنها هي نفسها تلك \”القهوة\” التي أغلقت أبوابها في وجهه، ثم علَّقت صورته فيما بعد على جدرانها. وهي التي طردت يحيى الطاهر عبد الله من نعيمها أكثر من مرة، ثم عادت لتعلق صورته على جدرانها.

أصحاب ريش وضعوا صور زبائنهم، حتى وإن كان الزبون قد جلس مرة أو اثنتين هناك، على الحيطان مثل البارات والفنادق. ونجحوا في صياغة معادلة طبقية تتسع لهواة التطلع الطبقي والسبق الصحفي – الإعلاني، والتميز الإبداعي والاجتماعي الرخيص، بل وامتدت الخطوط على استقامتها ليلعب المظهر الشخصي دورا حاسما في ارتياد المكان. إضافة إلى \”الزبون\” الذي يعرف لغة أجنية لكي يتمكن من اصطياد الأجانب أو مرافقتهم ليشرح لهم أن ريش هي مركز الإشعاع الثقافي والسياسي والحضاري في مصر. ولا يمكن أن نتجاهل بعض الأفلام التي صُنِعت خصيصا حول تاريخ \”المقهى\” ومنحه أبعادا مبالغ فيها بشكل يثير الرثاء، ويعطي انطباعا بأنه مهد الثورات ومفجر الطاقات.

يظل الفارق بين \”مقهى ريش\” و\”قهوة زهرة البستان\” طبقيا على الرغم من أن نفس الأشخاص تقريبا جلسوا في المكانين، وتناولوا نفس الموضوعات. لكن الصعود الاجتماعي – الطبقي جرى في هدوء بدون أن يلحظ أحد. وبالأحرى، وسط تواطؤ منقطع النظير بين هذا النوع من الرواد وبين بعضه البعض من جهة، وبينهم جميعا وبين إدارة المقهى المتمثلة في صاحب المقى والعاملين فيه من جهة أخرى. لقد انتقل قسم كبير من رواد زهرة البستان إلى ريش، واستوطنوا المكان لا باعتباره مقهى تتجدد فيه الوجوه وفقا لقوانين الحركة والتطور، وإنما كعلبة أو مكان معزول يتمايز رواده طبقيا عبر جملة من المظاهر المتمثلة في المظهر والشلة ومستوى الحديث من حيث التنظير. وتمسك هؤلاء بالمكان مع نفض الذاكرة بدرجات مختلفة من زهرة البستان لأسباب كثيرة من بينها، \”أصل زهرة البستات لمت\”، \”أصل الأجيال الجديدة قليلة أدب ومش عارفة قيمتنا\”، \”أصل العيال الخرتية والمخبرين ملوا زهرة البستان\”، \”أصل بصراحة ماعدش ينفع الواحد يقعد على الزهرة ويتكلم في موضعات جادة\”.

المدهش والمحزن، أن المثقفين هجروا ريش منذ سنوات السبعينيات تقريبا، وفي الثمانينيات تحولت ريش إلى مقهى عادي يعيش على سمعة الماضي. ومع ذلك هناك ادعاء غريب ومثير للتساؤلات حوال المستوى الحقيقي لوعي ودور رواد ريش ومشاركتهم الاجتماعية والإبداعية، وخاصة في ضوء اعتبارهم، أو اعتبار أنفسهم مفجري الوعي والثورة وحاملي مشاعل التنوير ولواء الحق والعدل، بينما الثورة كانت، ومازالت، في الشارع والميدان تسير إلى جوارهم وجوار غيرهم من هواة التنظير والتمايز. وأكملت الفضائيات وبعض الصحف الدائرة الجهنمية من تنميط الوعي بإطلاق صفات معينة على رواد ريش باعتبارهم العقل والوعي والتنظير، وأن كل ما يجري في الشارع على يد المنفذين العامة والدهماء هو من صنع المركز والعقل المفكر. وبالتالي لابد وأن نقر بأن قهوة ريش هي المهد والمنبع والشرارة. وكأن لا تاريخ لمقهى \”سوق الحميدية\” أو \”إزفيتش\” أو \”علي بابا\” و\”فينكس\” وغيرها العشرات من تلك المقاهي المهمة تاريخيا ومعماريا. وبطبيعة الحال، يتم تجاهل ليس الأماكن فحسب، بل وروادها ودورهم في الثقافة والتنوير والسياسة والعمل السياسي والتنظيمي السري والعلني لحساب تابوه واحد وإله واحد.

من الواضح أن هناك بعض المبالغات التي تصل إلى حد التزييف أو التضليل. وأعتقد أن الحاج صاحب الزهرة، رحمه الله، لو كان قد انتبه للأمر، لَصَوَّر الزبائن والرواد ووضع صورهم على جدران القهوة، وأصبحت القهوة بدورها مركزا للوعي والإشعاع الثقافي والحضاري ومهد الثورات المصرية. لكنها في المقابل كانت ستصبح انعكاسا لريش التي تنبه صاحبها، قدس الله روحه، إلى موضوع الصور والحكايات والأفلام والتحقيقات الصحفية، فالرواد هم أنفسهم من ساسة ومثقفين ومفكرين وكتاب وشعراء وسينمائيين ومسرحيين، وغيرهم الكثير. علما بأن الكثيرين هجروها منذ سبعينيات القرن العشرين كما ذكرنا أعلاه.

ومع ذلك تبقى \”زهرة البستان\”، وغيرها من مقاهي وسط البلد، مقاهي البسطاء والمبدعين والمنتجين والأغلبية السمجة القادرة على الفضح والكلام بصوت عالٍ، والوقاحة الإبداعية، بعيدا عن \”الحفلطة\” و\”الزفلطة\” والتوازنات القلقة، ووجهات النظر التلفيقية وتضخم الذوات. فالمكان المفتوح في زهرة البستان يمنح رواده نعمة الحركة والتنوع. وهو كمكان مفتوح يمتلك دلالات ذلك على العقل وتموجاته ورؤى ذلك الكائن المتنوع والمتغير بحكم انفتاح المكان. وبالتالي، لا يمكن أن يمثل المكان في زهرة البستان وغيرها \”جيتو\” مغلقا، ولا يمكن للزبون أن يدعي انتماءه إلى شلة أو يتخذ المكان غطاء لكتم الروائح القديمة التي تنبعث من رأسه. ذلك على عكس مقهى ريش المغلق، الذي احتمت به \”طائفة ثقافية\” محددة ليحميها ليس فقط من التحولات خارجه، بل وأيضا من هذا البعبع الذي يقبع على بعد 100 متر فقط، ومن غيره في وسط القاهرة.

المبالغات والادعاءات كثيرة بشأن ريش. ويبدو أنها ستظل تتردد كأي صوت يتردد صداه في \”الصحراء\” والأماكن الخاوية والخربة. سيظل التمسك بالمكان المغلق والاعتصام به كطوق نجاة من التغيرات والتحولات، وستقتصر المشاركة فيها على التنظير والتمايز الاجتماعي والطبقي والإبداعي، والنضالي أيضا. غير أن المفارقة الخطيرة، أنه عندما قُتِلَت شيماء الصباغ على الرصيف المقابل لمقهى ريش، لم يحملها الناس ويدخلوا بها إلى مقهى ريش، بل حملوها وتوجهوا بها إلى قهوة \”زهرة البستان\”.

العالم يتغير، والأحداث تتوالى. والجيتو ليس فقط مكان، بل طريقة تفكير ونمط حياة يدفعان أصحابهما إلى الإنكار المرضي لما يحدث حولهم أو الالتفاف عليه لينسبوه إلى أنفسهم. إنها فكرة البقاء والمجد والخلود. غير أن المفاهيم البسيطة للخلود هي توالي الأجيال وتجددها وانفتاحها ومدى اتساع رؤيتها لاستقبال العالم وإدراكه على الأرض وفي وسط الأحداث وهدير حركتها، وليس فقط وضع صور العجائز والميتين على الجدران.

الفكرة لا تموت. والتنظير العقلاني مثل الموجات يتسع ويتردد دائما. لكن كل ذلك لا يمكن أن يصمد أمام الحركة والانفتاح والتحولات.. الفكرة والتنظير موجودان أيضا أمام الأجيال الأخرى الأصغر التي تتنناقلها على الأرض بدون ادعاءات أو انغلاق أو احتماء بالأماكن المغلقة، وتقوم بتطويرها. لكن الموتى والجثث المتحركة والديناصورات المنقرضة، تقتل ما أبدعته في شبابها من أفكار وتنظيرات بأنانيتها المفرطة وجشعها واحتمائها بالمكان المغلق لدرجة تمجيده كحائط الصد الأخير أو مخبأ قيادة أركان جيش انهزم للتو ولم يعد لديه غير الملجأ الخرساني الآمن تحت الأرض والذي يحتوي على مادة السيانيد كمنقذ أخير من العار. ومع ذلك، فتناول السم للتخلص من العار، هو بحد ذاته إجراء يدعو للتفكير والتأمل، وربما لبعض الاحترام، على عكس الجثث الحية التي لا تريد أن تفسح المكان لدخول المزيد من الهواء النقي وضوء الشمس، بل وتجر معها جثثا أخرى تسعى للارتقاء والظهور والعبور إلى صالونات وهمية.

قهوة ريش ليست بحاجة إلى معارك وهمية، وبطولات زائفة للحفاظ على الطرز (الطرازات) المعمارية، وما يعتبره البعض دورها الرائد والتاريخي في الثقافة الوطنية والفكر والثورات.. قهوة ريش ليست بحاجة لأن تتحول إلى ضريح رسمي بختم النسر ووسط تسابيح المشعوذين والباحثين عن دفء الشِلل.. قهوة ريش بحاجة إلى هواء نقي وضوء شمس وإزاحة الجثث الحية المتراكمة على المقاعد والجدران.

إن البعض من أصدقاء المرحوم صحاب المقهى استفزوا الناس، وبدأوا يصنعون منه قائد ثورة الوعي والتنوير والثقافة والسياسة والثورة. وحاولوا أن يصنعوا من صاحب \”المكان – المحرك\” لحركة الوعي والثقافة والسياسة والاحتجاجات الشعبية في مصر. هذا الأمر استفز الكثيرين وخصوصا الذين كانوا يفضلون الصمت لكي لا يستغل أحد أو جهة أو سلطة مثل تلك الخلافات والتناقضات لدق أسافين بين الناس، أو للاستيلاء على المقهى تحت أي حجة.

لقد كتب زملاء وأصدقاء كثيرون عن مقهى ريش أثناء حياة صاحبه ومديره، وعقب وفاته مباشرة. لكن لم يلتفت أحد إلى تلك التراكمات التي انفجرت ليس في وجه المرحوم قدس الله روحه، بل في وجه نفس هذا البلوك ومن يدورون حوله. في وجه الكذب القادر على قلب المناقشة الموضوعية أو الانتقاد الموضوعي إلى سباب شخصي أو تناول أمور شخصية أو نميمة رخيصة.. لا أحد يريد أن يشخصن موضوع ريش على الرغم من كل الحسابات الشخصية، فلكل الناس علاقات شخصية مع بعضها البعض، وهناك استلطاف واستظراف بين البشر، لكن أن تتحول كل هذه الأمور الشخصية إلى تزييف للوعي وصناعة للتواريخ والمواقف الوهمية والتابوهات، فهذا يكرس لكل ما يزعم الكثيرون أنهم ينتقدونه ويقفون ضده، ويثورون عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top