يوجد اليسار، توجد النملة ويوجد الغراب.. لأول وهلة يبدو وكأن ليس هناك ما يمكن أن يجمع بين هذه الكائنات الثلاثة، لكن ما علينا إلا أن ندقق النظر لنكتشف أوجه عديدة للتشابه والاختلاف. أما الغريب في الأمر أن قصة الوزير الذي أقيل هي التي جعلتني أفكر في هذه الكائنات العجيبة.
دائماً ما كان يثير النمل بداخلي مشاعر الاحترام والإعجاب، ودائماً ما كان ردي جاهزاً فيما يتعلق بالكائن المفضل لدي، إنه بلا شك النمل، فهو أفضل وأرقى الكائنات على وجه الأرض.. هذا الرد كان يثير سخرية الآخرين، كيف يمكن لكائن بهذه الضآلة والتفاهة أن يكون من أرقى الكائنات على وجه الأرض؟
لقد تأملت النمل كثيراً، وكيف يعمل بدأب عجيب على مدار العام. لا يمكن أن نجد أي نملة تعمل بمفردها، فكل شيء منظم بشكل جماعي والأدوار مقسمة بمهارة شديدة. يعمل النمل بصبر على مدار شهور دون أن نراه أو أن نشعر به وعندما تتجمع جيوش النمل لتهاجم، فلا يوجد من يوقفها. بالطبع نستطيع في لحظة واحدة القضاء على نملة بمفردها أو على مجموعة صغيرة من النمل، لكن ماذا يمكن أن نفعل في مواجهتهم عندما يتحولون إلى جيوش نكتشف تغلغلها في كل مكان تحت السطح بحيث تهدد كيان أي شيء من جذوره؟ ماذا يمكن أن نفعل عندما نتوقع أن يتهاوى هذا الكيان في لحظة ما بعد أن خلخله النمل من الداخل؟ ببساطة لا نستطيع أن نفعل شيئاً، فنحن بلا شك المهزومون في هذه المعركة.
إن التناقض شاسع بين النملة والغراب، هذا الكائن الكسول الذي يعيش على موت الكائنات الأخرى، ليس فقط على موتهم، وأنما ينتظر تحولهم إلى “جيفة”. يطير بمفرده ويظن أنه سيد العالم فهو يراه من فوق فيظن أن هذا العالم صغير الحجم وتافه.. لا يعلم الغراب أن شكله ومنظره القبيح يثير الشؤم لدى الكثير من الناس.. لا يعلم أنه هو نفسه كائن فردي متعال ومتغطرس، مهارته الوحيدة هي أن يلتقط بسرعة جيفته ويطير هارباً ليأكلها بعيداً.. إنني أكره الغراب.
أما اليساريون، وأقصد هنا قطاعاً منهم، فلا يسعني أن أقدم تعريفاً لهم أفضل مما قدمه عمنا أحمد فؤاد نجم: “محفلط، مزفلط، كتير الكلام، عديم الممارسة، عدو الزحام، بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح يفبرك حلول المشاكل قوام”.. كان عمنا نجم عبقرياً في توصيفه لقطاع من اليساريين، ذلك الذي نقابله يومياً ويذكروننا دون توقف بتضحياته وبمواقفه الراديكالية والتي لا تقبل بأقل من سقوط النظام.
ماذا كان رأي هذا القطاع في استقالة وزير العدل على سبيل المثال؟ لا حاجة إلى التذكير، فقد قرأنا تنظيراتهم ومواقفهم المتعالية على فرحة الناس بالاستقالة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.. تلخصت هذه المواقف في أن الاستقالة لا تعني شيئاً، لأن كل الوزارات تسير على نفس المنوال ولأن استقالة وزير لن تغير من واقع الأمر شيئاً، فهدفنا يجب أن يكون إسقاط النظام ولا يجب أن نقبل بأقل من هذا.
هل رأيت عزيزي القاريء، أنهم يعرفون أكثر بكثير من أي شخص، يعرفون ما هو الهدف الرئيسي ولا يقبلون بأقل منه، فهم ينظرون إلى العالم من فوق، فلا يرون أشياءه البسيطة والتافهة، فقط يستطيعون تمييز كل ما هو كبير، فإسقاط وزير هو أصغر من أن يعتبرونه مكسبا في الطريق من أجل الهدف الكبير. لكنهم من جهة أخرى لا يضيعون أي فرصة ولا يوفرون جهداً إذا ما وجدوا معركة، صغيرة أو كبيرة، يمكن أن تكون سبباً في تغذيتهم وجعلهم هم أنفسهم أكبر حجماً.
لا تغضب مني عزيزي القاريء إذا قلت لك أن هدفي أنا أيضاً هو إسقاط النظام، لكنني احترم النملة وأتمنى لو اتخذناها مثلاً أعلى. لنفس هذا السبب أرى أن استقالة الوزير هي مكسب مهم لابد أن نفتخر بأنه كان نتيجة لحملة ضد تصريحاته التي أعلنت عن التمييز الطبقي بكل وقاحة.. إنها حملة شارك فيها الجميع وتحدث عنها الجميع. نعم لقد تمت هذه الحملة بشكل عفوي وبشكل رئيسي داخل شبكات التواصل الاجتماعي، لكنها استطاعت أن تعكس الوعي الطبقي الموجود داخل كل منا. لقد استطاعت وفي خلال ساعات قليلة أن تثير أسئلة ونقاشات كثيرة. لهذا السبب فإن كل من كتب تعليقاً أو نكتة أو مقالا أو وضع صورة رافضاً لهذا التمييز الطبقي، قد شارك بنفسه في إسقاط الوزير وعليه أن يفتخر بنفسه ويفرح لهذا المكسب. إن أهم ما في هذه الحملة أنها أثبتت أن النظام أصبح يشعر في أعماقه بالخوف من الناس ومن انتقاداتهم، حتى لو حاول، في أحيان كثيرة أخرى، الظهور بمظهر القوي الصامد الذي لا يخاف.
نعرف أن إسقاط وزير ليس هدفاً في حد ذاته، لكن هل سمعت عزيزي اليساري ما يسمى بالأهداف التكتيكية والأهداف الاستراتيجية لإنجاح أي ثورة ولإسقاط أي نظام؟ هل سمعت عن تشكيل جماعات الضغط وكيف يمكن أن يكون تنظيمها حاسماً في رفع وعي قطاعات كبيرة حول الكثير من القضايا؟ هل سمعت عن أهمية تراكم المكاسب التي يجب أن نحققها تدريجياً حتى يمكننا تشكيل قوة حقيقية قادرة على تهديد النظام؟
لنتخيل الآن، ماذا سيفعل النمل إذا وضع إسقاط النظام هدفاً له؟ لا حاجة لأن يذهب خيالنا بعيداً، نعرف جميعاً أن النمل سوف يعمل لسنين وسنين بشكل منظم وجماعي على خلخلة هذا النظام من الداخل وعلى التغلغل في كل جوانبه، بحيث يمكن في النهاية لريشة أن تقصم ظهره.
لكن للأسف، يتخذ قطاع من يساريينا من الغراب مثالاً أعلى لهم، يظنون أن النظام سوف يسقط فجأة ذات صباح مشمس، ثم يتعفن، فتحين الفرصة لاغتصاب قطعة من “جيفته”.. إن المكاسب البسيطة لا تعنيهم، فهم لا يرون سوى هذا الكائن الهائل الذي ينتظرون سقوطه. ويظنون أن “الزعيق” و”الهتاف” وحده سوف يكون سببا لإسقاطه.. ببساطة فإنهم لا يأخذون النمل مثالاً، لا يعرفون أنه لابد من “نخورة النظام” بشكل واعٍ حتى يسقط، لا يعرفون أن الجميع، نعم “الجميع” لابد أن يشارك في هذه “النخورة” بكل الأشكال وبكل وسائل الضغط، حتى لو كانت هذه الوسائل هي مواقع التواصل الاجتماعي.
إسقاط وزير وحده لا يكفي، لكنه مكسب بسيط يجب أن نتعلم منه كيف نراكم مكاسب أكثر في كل المجالات لتشكيل جماعات ضغط ذات تأثير سياسي حقيقي، تستطيع الحصول على قوانين أفضل، وشروط عمل أكثر إنسانية، ونقابات أقوى، إنها مكاسب تمهد طريقنا إلى الهدف الرئيسي بدرجة أكبر، فلا يموت الآلاف جوعاً أو بالرصاص قبل أن يرونه متحققاً.
للأسف فقد أثبت الواقع منذ ثورة يناير ٢٠١١ أنه ليس بمقدرتنا، كيسار يعيش في هذا البلد الآن، أن يخلق مثل هذا الزخم الضروري لخلخلة النظام من الداخل، لكن على الأقل، لا يجب أن نعيق ولا أن نستهزئ من محاولات الآخرين في تشكيل جيوش النمل الزاحف.
فلنتعلم من النمل عزيزي اليساري، لأننا لو ظللنا نعمل كالغربان، سيكون انفجار الثورة في يوم ما سبباً في انقراضنا، فلن نجد “الجيفة” التي يمكن أن نعيش عليها.