في حوار مبهج بين \”صلاح جاهين\”، والإذاعي \”طاهر ابو زيد\” سأله ابو زيد: مين أهم رسام كاريكاتير في رأيك؟ فقال جاهين: والله أنا لما بابص في المرايا باشوف إن ربنا هو أعظم رسام كاريكاتير!
نظرة ساخرة رأى بها جاهين نفسه، لقطة مقربة، جعلته يضخم أشياء ويصغر أخرى، فبدت الصورة في عينيه بهذا الشكل، كاريكاتير.. أحب هو أن يرى نفسه هكذا، ضحكة عريضة تهرس الحزن بين أسنانها وتبرز غمازتيه اللتين يغازل بهما الدنيا.
اثنان يجيدان التقاط الصور كأنهما يرسمان صورة للروح، لتبدو كأبهى ما يكون، \”فنان تصوير موهوب\”.. و\”محب\”.
سيفعلها الأول بتقنيات تعلمها أو هدته إليها موهبته، والثاني ستقوده المحبة لأجمل ما في المشهد.. لن يضيف أحدهما شيئا، لكنه سيضبط المسافة والضوء والظلال ويختار أجمل الاتجاهات، سيساعده كونه خارج الكادر على أن يتحرك بحثا عن الزاوية الأفضل، ثم يلتقط الصورة.
صورنا العائلية كان يلتقطها في العادة مصور محترف نستحضره إلى مناسباتنا أو بيوتنا ليسجل لنا لقطات تجمعنا، أو نذهب إليه في \”الاستوديو\” لنأخذ صورة عائلية شبه رسمية، بملابس مختارة وجلسة مرتبة ووجوه منتبهة شبه مثبتة حتى ينتهي المصور من مهمته.. صور الاستوديو كانت تأتي في الغالب جميلة للغاية، لكنها جدية جدا، لا تحتمل مداعبات ولا حركات ضاحكة ولا تعبيرات مبالغة، صور أقرب للوقار وربما بعض الفتور والتكلف، لكنها راقية ومنضبطة وأنيقة.
أما صور المناسبات والبيوت والرحلات، فأنت وحظك! إذا التقطها لك محترف، أو موهوب، فستحظى بأجمل الصور على الإطلاق، تلك التي تجمع بين التلقائية والحيوية وحرية الجلسة أو الوقفة أو تكوين الحركة والتعبير والمداعبات والمشاعر، وبين الضبط للمتطلبات الجمالية، والأهم، مراعاة المسافة التي تظهر تناسق النسب في الملامح وكل تفاصيل اللقطة. وأما إذا التقطها متطوع فربما لا يملك حسا يساعده على اختيار أجمل الزوايا، فتخرج الصورة وقد أظلم فيها ما كان ينبغي أن يبدو مضيئا وظهر ما كان ينبغي أن يتوارى وتضخم ما هو في الأصل ضئيل، فتأتي خالية من كل جمال، تلك الصور التي نبحث عنها في ألبوماتنا القديمة لكي نمزقها ونحن ندعو على من التقطها!
وهناك صور أخرى لا تبدو لطيفة على الإطلاق في حين يبدو الموقف نفسه كاريكاتيريا، عندما تذهب للمصور \”الرسمي\” الذي يلتقط لك صورتك التي ستسجل بها في أوراق الوطن وستوضع في بطاقة التعريف بك، فأنت تنظر إلى العدسة وبتلقائية العادة تبتسم، لتفاجأ بالمصور وهو يطلب منك، بكل أريحية، ألا تبتسم! تحاول أنت أن تغالب ابتسامتك -تلك التي لا تختار إلا الأوقات غير المناسبة!- وتغالب غيظك من هذا \”الديكتاتور\” الذي سمح لنفسه بأن يتدخل في أدق شئونك وفي شعورك الخاص، وقهر ابتسامتك! لتخرج الصورة على بطاقتك \”الوطنية\” بحالة مبالغة من \”التكشير\”، كأنها لمريض باكتئاب مزمن أو لمجرم \”مطلوب\”، لا تدري هل هي تشخيص لحالتك الحالية أم هي تنبؤ بما سيكون عليه مستقبلك، أم هو تهديد وتوعد لك من \”جهة ما\”!
لم يكن متاحا منذ سنوات أن يلتقط أحدنا صورة لنفسه، وإذا أتيح فنادرا ما كان يفعلها أحد؛ أما الآن فقد بات مألوفا أن ترى حولك، أينما وليت وجهك، شخصا يمسك بمحموله ويحدق في عدسته، وحده أو بصحبة آخرين يلتصقون به، وفي الغالب يبتسمون ابتسامة عريضة أو يتخذون أوضاعا مضحكة خفيفة الظل.
صور السيلفي في مجملها تخرج أشبه بلقطة كاريكاتيرية.. مقربة للغاية، بما لا يسمح بمسافة تظهر تناسق الملامح ومكونات المشهد، حتما سيبدو شيء أكبر من آخر، العين أو الأنف أو الفم المفتوح عن آخره.. ربما يشبه هذا رؤيتنا لأنفسنا بشكل عام.. نادرا ما نستطيع أن نرسم لأنفسنا صورة مكتملة متناسقة، كل بحسب ما يركز عليه اهتمامه وانتباهه وتصوره عن ذاته، إما أن يضخمها ويعظمها ويكبرها أكثر من الحد، وإما أن يبخسها قيمتها ويغفل عن مواطن الجمال فيها.. إما يبرز وجهه، من بين كل الوجوه من حوله، أو يبرز الأخرى وعلى الطرف يبدو وجهه أكثر ضآلة وإظلاما مما هو في الحقيقة ومما يستحق.. ربما تأتي الصور التي يلتقطها لنا الآخرون أكثر اتساقا وربما جمالا، بحسب مهارة وذكاء المصور ومحبته لنا، هكذا يروننا، عندما تسمح المسافة بإعطاء كل شيء حجمه الحقيقي بلا مبالغة، بلا تضخيم ولا تصغير ولا إغفال.. ربما أن الاقتراب المبالغ فيه يخفي بعض التفاصيل! يطمس بعض النور، أو يضيق على العين رؤيتها فيحرمها اكتمال النظرة وشموليتها.. الصور المأخوذة لنا من مسافة معقولة تسمح لأرواحنا أن تتنفس.
لكن للصورة السيلفي بهجتها، فلن تجد أحدا يلتقط لنفسه صورة وهو حزين، في حالة الحزن نحن أبعد ما نكون عن شغف تسجيل اللحظة وتثبيتها.. كذلك ونحن نعمل، بحق، ونحن نهتم بآخر، فالآخر في هذه اللحظة هو البطل، ونحن في حالة خشوع، حين التحليق في الملكوت أو داخل أعماق النفس، وحتى حين الانتشاء الحقيقي، المستغرق، فهذه لحظة مفترض أن يغلب شغفها أي شغف آخر.. السيلفي للحظات البهجة والمرح فقط، البهجة التي نقبل أن يشاركنا فيها الآخرون، أو أن يطلعوا عليها.. وحدك أو مع آخرين أعزاء، أو نجوم أردت أن تثبت لحظة لقائك بهم، ستظهر السيلفي في كل الأحوال كلقطة حميمية، الكل مقترب حد الالتصاق مهما كان قربه أو بعده في الحقيقة.. والكل -في الغالب- يبتسم أو يداعب أو يرسم منقار البطة!
لماذا لا يلتقط البسطاء لأنفسهم \”سيلفي\”؟ هل لأنهم لا يملكون أجهزة تتيح لهم ذلك؟ لا أعتقد، فالأجهزة المزودة بكاميرات باتت متاحة للجميع اليوم، سيتمكنون من التقاطها أو الحصول عليها إن أرادوا.. هل لأنهم لا يملكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي ليشاركوا صورهم عليها مع الآخرين؟ فكرت أنهم منغمسون في الحياة حد الغرق، حد أنهم ربما يرون التصوير السيلفي ترفا أو فراغا، أو ربما أنهم لم يسمعوا عن هذا الشيء
أصلا.. هل سيفعلون إذا ابتسمت لهم الحياة وخففت عنهم أشغالها الشاقة ولو قليلا؟ في الغالب سيفعلون.
الصورة السيلفي هي بهجة مجسدة، نفعلها -افتعالا- لنقول لأنفسنا ربما أننا سعداء، أننا محبون ومحبوبون، أننا نحيا.. نعيش بكل ما فينا وبرغم كل ما حولنا من عبث.. نضحك ملء أفواهنا عندا وتحديا للديكتاتور الذي فرض علينا التكشيرة وسجلها علينا في أوراق رسمية وفي بطاقة نسبنا إلى الوطن.. نضحك للدنيا مصدرين لها غمازاتنا لعلها تستجيب للغزل.. فتضحك معنا!