د. أشرف الصباغ يكتب: الثورة المقبلة لن تتم إلا في الواقع ما بعد الافتراضي

لا يستطيع أحد إنكار أن الاحتجاجات اللي وقعت في السنوات الأخيرة، وبالذات في ٢٥ يناير ٢٠١١، بمساهمة لا بأس بها من وسائل التواصل الاجتماعي والواقع الافتراضي، لم تحقق تحولات، وإن كانت بطيئة أو غير ملموسة بقوة. لقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي، والواقع الافتراضي عموما، ضروريين لاندلاع تلك الاحتجاجات في ظل التقدم العلمي – التقني.

كل ما في الأمر أن الأنظمة السياسية ووسائل الإعلام وأجهزة الأمن والاستخبارات التابعة لهذه الأنظمة تمكنت بدرجات متفاوتة من السيطرة على هذه الاحتجاجات وقمعها بطرق مختلفة، بل ونجحت بدرجات أقل في توجيهها لاحقا تحت مسميات عديدة غير بريئة، وإن كانت تبدو متماشية مع تلك التحولات.

الآن تجري عملية تنميط للمجتمعات وفقا للتحولات الجديدة وباستخدام كل الوسائل الممكنة وعلى رأسها الثقافة والإعلام والمنجز العلمي التقني، وهي الوسائل التي تمتلكها الأنظمة والمؤسسات التابعة لها، بما فيها الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى. وبالتالي، فمقاومة ومواجهة الحالات الجديدة من تنميط المجتمعات وأساليب القمع والقهر الممنهجة الجديدة في ظل الواقع الافتراضي الحالي، لن تتحقق بنجاح وبشكل جذري إلا في واقع ما بعد افتراضي له ملامح وشروط خاصة.

لا أحد يمكنه أن يتصور هذا \”الواقع ما بعد الافتراضي\”، بالضبط عندما لم يكن يتصور أو يحلم أحد بالطفرة العلمية – التقنية التي خلقت واقعا افتراضيا متوافرا للناس. فوفقا للوثائق العلمية للدول الصناعية الكبرى، قد تم الكشف عن هذا الواقع الافتراضي في حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، لكن استخداماته كانت محصورة في المجالات العسكرية والاستخباراتية. والواقع الافتراضي ليس فقط أجهزة كمبيوتر أو تقنيات رفيعة متقدمة، أو وسائل تواصل اجتماعي. إذ أن الواقع الافتراضي يشكل عالما كاملا على عدة مستويات: عالما موازيا، وعالما شبيها بالواقع، وعالما يمثل انعكاسا للواقع وهو في الوقت نفسه جزء منه وامتداد له.

عندما كانت الجماهير تقوم بهباتها الاحتجاجية وثوراتها في القرن العشرين، لم تكن تتخيل أصلا شكل ذلك الواقع الافتراضي الذي سيبدأ فعليا مع بداية الألفية الثالثة، والذي نعيشه الآن.

قد يبدو هذا الكلام مقدمة أو تحليل أو تكهن لشئ ما. وقد يبدو مجرد خيال أو تصور فلسفي، لكن للأسف، فهو كلام عادي وطبيعي في ظل الطفرة العلمية – التقنية التي نعيش جزءا لا بأس به من منجزاتها، بينما الجزء الأكبر لا يزال قيد الخزائن السرية والمعامل والغرف المظلمة في مباني استخبارات الدول الكبرى. ومع ذلك فهذا الكلام بحد ذاته يمكن أن يصبح مادة للبحث في ضوء ما قام به الشباب من احتجاجات شعبية في السنوات الأخيرة، أدت في مجملها إلى شكل من أشكال التغيير، وألقت بصخرة ضخمة في المياه الراكدة.

كان من الصعب أن يقود هذا الحراك أشخاص من كبار السن بحكم السن نفسه، وبحكم طريقة التفكير، وبحكم نضوب الخيال. هذا ليس تقليلا من شأن الأجيال السابقة أو اتهاما بالتقاعس، بقدر ما هو طبيعة الحياة، وطيعة حيوية الشباب، وقدرتهم على الخيال والتصور والحلم في ظل واقع مرير على كل المستويات من جهة، ومنجز علمي – تقني تمكنوا من استيعابه بدرجات متفاوتة من جهة أخرى.

وإذا كانت الدولة بمفهومها الإداري والسياسي والتنظيمي، وبما تمتلكه من سطوة وسلطة وأجهزة قمعية، تقف دائما ضد أي تحولات ضخمة وواسعة تضر بمصالح رعاتها والمستفيدين من بنيتها وتكوينها، فهناك مشكلة صراع الأجيال التي يمثل فيها الجيل الأكبر عائقا أمام طموحات وأحلام وخيال الجيل الشاب الذي يريد التغيير والقادر عليه فعليا. فالجيل الأكبر عادة ما يعتبر نفسه وصيا – أبا – وفق المنظومة الأبوية التسلطية المستبدة للأب الطبيعي في البيت وللرئيس في العمل ولمؤسسات السلطة بكل رؤوسها حتى الوصول إلى الأب الأكبر.

الهبات المقبلة، والاحتجاجات والثورات، ستحقق نتائج مبهرة في حال الوصول إلى مرحلة ما بعد الواقع الافتراضي. والثورة لن تتم إلا فيه. وهذا يعتمد بالدرجة الأولي على صلابة الجيل الشاب وقدرته آنئذ على التحمل والخيال والإبداع والخلق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top