مبتسما يدخل الطبيب ليحقنني بذرة من السكر المشع, يبدو مرحا جدا وهو يحكي لي ما سنفعله اليوم, متأهبا أكثر ليحكي لي طريقة عمل الـ \”pet scan\” , اقاطعه بردود مختصرة تفيد أنني اعرف.. شريرة اقطع عليه مرحه, فقد كاد أن يحكي لي التكنيك الطبي الأكثر إثارة للخيال حسب معرفتي.
منذ قرأت عنها وأنا احب هذا النوع من الأشعة, واشعر بالامتنان لمخترعه, ليس لأنه الطريقة الأحدث والأكثر دقة في الكشف عن خلايا السرطان النشيطة داخل الجسم، لكن لأنه يتماشى تماما مع الفانتازيا التي تعاملت بها مع قصة الخلايا السرطانية منذ اليوم الأول مع المرض.
هل تعلم أن الخلايا السرطانية تحب السكر, مثلها مثل أي طفل صغير مشاغب؟! تلعب فلسفة عمل البت سكان على هذا الوتر, فهي تجوع الخلايا السرطانية \”إن وجدت\” عن طريق صيام مسبق للمريض, ثم يحقن الجسم بذرة من السكر المشع, الإشعاع هنا مهمته تسهيل عمل جهاز الأشعة في تتبع ذرة السكر، وهي تستقطب خلايا السرطان الصغيرة الجائعة إن كانت موجودة في الجسم أو إن كانت حية ونشيطة.
مثل توم وجيري صارت علاقتي بالسرطان, اطارده، لكن لا تخلو المطاردة من خفة دم.. تدور بيننا حرب، لكنها لا تخلو من المحبة.
غيرتني تجربتي مع المرض، فما عدت قادرة على الكراهية, هذا ما حدث لي رغما عني, ولم اختره, اعترف بأنني اتصور نفسي في هذه الروح الجديدة وكأنني في قطاع وردي\”pinky zoon\” معزول عن خشونة الحياة وحقيقتها المرة.. اريد أن اعود لأكره واصارع واحقد واغير.. اريد أن اعود للمرأة التي كنتها, فأجد روحي غير قادرة إلا على المحبة. كشجرة مزهرة هي المحبة, معطاءة وسخية, تفرد ظلالها على الحياة فتحمينا من جدب الكراهية, استسلم تماما, وافكر في ملايين البشر الذين يصنعون الحروب والخراب والقتل والانتقام, لو اقتربت أرواحهم ذات لحظة من فئ هذه الشجرة لتغير العالم حقا.
كانت منحة المرض هي هذه التحولات التي تجري في روحي, أدركت الحياة من جوانب أخرى.. اتصور أن لربنا تدابير لا يدركها إلا هو.. اقبل بها تماما, واقبلها كما كان يقبل أباؤنا رغيف الخبز الساخن.. أنه رزق لا يدرك قيمته إلا قليلين.
تقول لي صديقتي: \”سمعت أنك صوفية\”.
ارتبك كثيرا من التوصيف.. ارتبك أكثر من التصنيف.. اشعر أن البشر الطيبين في لحظة ما، وقعوا في شرك تصنيف أنفسهم, كنوع من التمييز.. من التعالي على الآخرين, فمرة نحن ثوريون, وأخرى نحن صوفيون.. يميز آخرون أنفسهم بأنهم إخوان أو سلفيين, أو يسار.. اعتقد أن هذه هي حيلة الشيطان لنفوس الطيبيين.. تمييزهم بهالات التصنيف الدنيوية.
احاول أن احكي لها أنني لا استطيع أن أصنف نفسي بأني صوفية.. أنا فقط ابحث – صادقة – عن الطريق إلى الله, آراني كذرة فردانية في محيط الكون, وسط مخلوقاته اسبح بمحبته في الفضاء الواسع, فردانية العبد هي طريق الحرية, بينما ذكر الله هو طريق المحبة.
اقتربت من حافة الإلحاد.. في الملكوت الواسع كنت لأيام قليلة كجرم تائه في الفضاء.. كنت صادقة في معرفة الحقيقة الخالصة حتى رأيت وجه الله فآمنت حقا, استسلمت وسلمت.. أليس هذا هو الإسلام حقا؟
توقفت عن الذكر, حتى أدركت أن ذكره يطلب لذاته لا لغرض ولا هدف.. لا للتيسير ولا للشفاء, ولا للرزق ولا حتى للمغفرة.. ثمة شئ أجمل من هذه الاشياء حقا، لا يتحقق إلا لقلب ذاكر.. تخيل أن نوره يحتل أنفاسك صاعدة وهابطة.. أن اسمه يتجلى مع كل تمتماتك.. ثمة جنة على الأرض لا يدركها إلا قلب ذاكر.
حين اقرأ القرآن استغرق في كل هذا الجمال, فاسأل نفسي: هل هذا القرآن هو ذاته الذي يخرج من قراءته بعض البشر بأحكام متطرفة وعدائية تجاه الآخرين؟! القرآن يشبه خيطا من نور تتضافر مع بقية الروح.. تمنحها بعض ما تسأل, فإن سألت سلاما وجدت، وإن طلبت سلطانا وجدت, أما انا فروحي لا تطلب إلا وصله.
احب مرضي, فلولاه لما ادركت روحي كل هذه المعاني.. ارقد على فراش الأشعة.. تدور عيون جهاز الأشعة حول جسدي بحثا عن خلايا سرطانية.. لا اهتم كثيرا هذه المرة, فماذا إن عطب الجسد، بينما تدور روحي كفراشة سعيدة في الملكوت.