محمد الخولي يكتب: مشهد فارق في حياة مواطن بائس

كانت الوجوه بائسة، كعادتها في تلك الساعة من الليل، في هذا اليوم الكئيب من فصل الشتاء.. كانت الساعة تقترب من الثانية عشر ليلا، والعربة التي تحمد الله على النجاة من زحامها بالنهار، لا تجد من يجلس على كراسيها في الليل.

غاب الزحام، بضجيجه، ومشاجراته، ورائحته، وأصواته المتداخله، مع أصوات الباعة والمتسولين، وساد الصمت بكآبته، ووجومه.

كنا حوالي 15 راكبا، نتناثر في أماكن مختلفة، لكن كل واحد فينا يرى الثاني جيدا، لم نكن نعرف بعضا بعضا، لكن هناك علاقة خاصة تربط كل راكبي المترو في تلك الساعة من الليل.. لا يفهمها إلا شخص تعود ركوب المترو.

كنا ننتظر في كل محطة ضيوفا جدد، يملأون المكان بأنفاسهم، فيأتي معهم الدفء المنتظر، مر القطار على محطات كثيرة، لكن لا أحد يأتي، مل الناس من الانتظار، فانشغل كل واحد منهم بفرك يديه، أو شد غطاء رأسه، والتأكد من غلق \”الجاكيت\” جيدا.

لا أحد يتحدث، الكلام مغامرة لا يستطيع أحد خوضها الآن، يتظاهر البعض بالانشغال في النظر من الشباك، والبعض يدعي النوم، لعل المسافة الطويلة تنتهي سريعا.

كنت أراقب الوشوش المهمومة، والأجساد المنهكة، وأحاول التعرف على صاحب كل وجه فيهم، هذا يبدو عليه موظف عائد من عمله الثاني، وذلك توحي ملابسه الأنيقة أنه عائد لتوه من زيارة لبيت خطيبته، وهذا الوجه أعرفه يعمل في مقهي بوسط البلد، هكذا كنت أمارس لعبتي حتى تصل محطتي، لكن في هذه الليلة تغير كل شئ، مع صعود هذا الرجل السبعيني إلى عربتنا.

……….

صباح اليوم التالي لتلك الليلة، أصبحت شيئا مختلفا، لم أعد ذلك المواطن الذي يركب المترو كل يوم، يقف عند العلامة المرسومة على الرصيف، يتأهب عند دخول القطار المحطة، ينفصل عن العالم، يحدد هدفه، يعافر حتى يدخل العربة، يجري يمينا ويسارا يبحث عن كرسي، يجده فيفرح بهذا الانتصار، أو يفشل، فينظر في وجوه الجالسين، ويتوقع أيهم قد ينزل أولا، يختار أحدهم ويقف أمامه ليجلس فور أن يقرر هذا الراكب النزول، هذا الصباح كنت شخصا مختلفا، وبالتأكيد تغير أيضا الـ15 شخصا الذين جمعتهم تلك العربة، تعلمت أن المشهد الذي تراه أمامكم له أكثر من زاوية، هذا ليس كل شئ، هذا هو الشئ الذي يريدونك أن تراه.

……….

أنا شخص لا أثق في تلك الروايات التي تتحدث عن زوج يعمل نجار مسلح سقط من الدور العاشر، ولديه 5 أبناء، وأنها اضطرت للنزول إلى الشارع حتى تستطيع إطعامهم، واستكمال علاجه، لا أصدق تلك المرأة التي تحمل تقاريرا طبية تقول إنها لابنتها التي تعاني من مرض كذا وإنها تسعى لتوفير ثمن علبة دواء واحدة، تدهشني تلك الطفلة التي توزع أوراقا على الركاب ملخص ما فيها: إن والديها توفيا في حادث سير ولها 4 أخوات هي المسئولة عنهن. تبهرني تلك المرأة المنتقبة التي قالت بصراحة إنها في الحقيقة ليست منتقبة، وإنها اضطرت للتسول حتى تتمكن بناتها من عبور الثانوية العامة، يثير فضولي تلك المرأة التي تحمل طفلا، وتقسم إنه يعاني من أمراض الدنيا كلها، لا أصدق هذه الروايات، في أحيان أدفع \”اللي فيه النصيب\” لأحدهم وأنا أهمس في نفسي \”مش مصدقك بس الداخلة حلوة\”، لكن كل هذا تغير في تلك الليلة.

…….…

يقول الخبر المكرر، والحكايات المتناقلة، والأساطير المتوارثة، إن فلان/ة توفي في حجرته الضيقة في منطقة كذا، ووجد الناس عندها صناديق ممتلئة بالأموال \”الفكة\” و\”الصحيحة\”، يقول الراوي إن فلان/ة كان يسرح في المترو صباحا، أو يتسول في موقف سيارات كذا/ أو له/ا فرشة بجوار وزارة كذا أو حي كذا، يتذكر الناس نفس هذه الروايات عند الوقوف في إشارة مرور، أو عند صعود متسول إلى عربة مترو، أو أتوبيس نقل عام، لكن في هذه الليلة الرواية مختلفة بالتأكيد.

…….…

رجل سبعيني بملابس رثه لكنها مهندمة، وجهه ككل وجوهنا بائس، يائس، ظنناه راكبا بعث به القدر إلينا ربما يمنحنا بعضا من الدفء، فكانت المفاجأة أن الرجل أشعل نيرانا كانت بداخلنا، أيقظ صوته من تظاهر بالنوم، وشد انتباه هذا الناظر إلى الفراغ، وقف في مقدمة العربة، وقال ما يقوله أي متسول، ذهب إلى آخر العربة وعاد إلى المقدمة، ولم يتأثر أحد بروايته، عن المرض والعجز. صمت قليلا، واتجه إلى أقرب كرسي، سند رأسه على يديه، ثم رماها إلى الخلف، ونظر لنا جميعا، وبدأ في كلام يبدو من بدايته أن الرجل قرر الإعتراف.

…….…

وقف الرجل وبدأ الحديث، متقمصا دور مذنب، يعترف أمام قاضيه، هي لحظة الاعتراف التي يتطهر المرء فيها من كل روث، يعود إلى إنسانيته الأولى، وطبيعته النقية، وقف الرجل يخاطب الجماهير التي اعتدلت في جلستها، وأصابها الحر بضيق في التنفس، فقرر معظمهم فتح النوافذ، وجه الرجل خطابه إلينا جميعا، لكن كل واحد منا كان يشعر أن هذا الخطاب موجه إليه شخصيا.

خاطبنا الرجل بصوته الضعيف، كنت أسمع دقات قلبه، وهو يحاول السيطرة على الموقف، لكنه كان يخسر أمام ارتفاع دقاته، عندما بدأ يقول \”الحقيقة أنا لست متسولا، لكنني مريض، معي أموال كثيرة، ولدي أبناء ثلاثة، جميعهم في وظائف محترمة، جميعهم تزوجوا، وتركوا لي البيت الكبير، أحارب مرضي فيه وحدي\”، تغير صوت الرجل وزاد ضعفا، وارتفعت دقات قلبه أكثر، أشعر الآن أن الجالس في آخر العربة يسمعها جيدا، كان يبحث عن هواء من أي مكان، وهو يقول \”أنا أخاف من الموت وحدي، كنت أوصيهم كل ليلة أن يجلسوا بجواري إن أصابني مرض خطير، لا أعرف كيف أواجه هذا الوحش وحدي، كنت أختبأ خلفهم، لكنهم هربوا وتركوني وحدي، رقدت على سرير أسبوعا، لم يأتني أحدا منهم، كنت أهاتفهم كل ساعة، لكنهم أنشغلوا، لم أنم ساعة كاملة في هذا الأسبوع، يقولون إن ملك الموت يأتي للمريض وهو نائم، كنت أنتظر قدومه حتى أتوسل إليه أن ينتظر أحدهم، لم يأت ملك الموت في تلك الليالي، ولم يأت أي من أبنائي، لكنني وجدت الحل، أن أكون هنا وسط الناس متسولا، بائعا، أو حتى محبوسا في زنزانه بتهم التسول، هنا لن أواجه الموت وحدي، ولن تتعفن جثتي قبل أن تدفن\”.

…….…

توقف الرجل عن الكلام فجأة، وقفز بحركة شبابية، إلى خارج العربة، في المحطة التي توقف فيها القطار، وأشار لنا من الشباك تلك الإشارة التي نفهم منها كملة \”سلام\”، أشرنا له جميعا، وتخلصنا من حصار البرد، وتمنينا جميعا إن كنا أعطيناه \”اللي فيه النصيب\” بدلا من تلك الحكاية الموجعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top