منذ فترة ليست بالبعيدة – لكنها حتما ترتبط بنهاية حكم الإخوان لمصر – لاحظت تزايد عدد النساء والفتيات اللائي يخلعن الحجاب يوما بعد الآخر، فظهرت دعوات مضادة ترهيبية متنوعة من قِبَل المتدينين أو من بعض المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم، نساء ورجال، متفاوتي الأعمار ليُهاجموا تلك النساء والفتيات، ويدعون للإبقاء على الحجاب بحجج شتى واستخدم بعضهم الشعارات التقليدية المبتذلة والمتداولة منذ بدأت حملة نشر الحجاب في السبعينيات ومنها مثلا \”المصاصة المغلفة بالسلوفان\” في مواجهة \”المصاصة الملوثة التي يتكالب عليها وينهشها الذباب\”، أو الدجاجة \”المسلوخة\” أو تلك التي تم نتف ريشها تماما فصارت عارية قبيحة.
بغض النظر عن تلك الحرب المتبادلة بين الطرفين – والتي لم تصل إلى حد الظاهرة وقتها – كان ما يهمني في الموضوع هو دلالة الفعل.. الدلالة الرمزية لقيام عدد من النساء والفتيات بخلع الحجاب في أعقاب انتهاء حكم الإخوان، أضف إلى ذلك أنهن فعلن ذلك فُرادى، بإرادتهن، ودون ضغط من أحد، ومن دون أي دعوات لمليونية لخلع الحجاب. وهو أمر من دون شك لو أُجريت عليه دراسة سيُظهر نتائج مُدهشة.
من فترة أخرى ليست بالبعيدة – ربما قبل الإعلان عن مليونيه خلع الحجاب بأيام قليلة – قرأت تعليقا كتبته ناقدة سينمائية شابة كانت قد قررت أن تخلع الحجاب، لأنها لم تعد قادرة على التصالح مع تلك الطرحة التي تغطي رأسها. ومن بين ما قالت إنها لسنوات كانت تخشى فك الطرحة لأن شعرها خفيف وليس جميلا.. اعترافها البسيط – الذي قد يعتبره البعض مبررا وتفاديا لقسوة رد الفعل – لقى تجاوبا من كُثر.. شخصيا لمست كلمات هذه الفتاة قبلي، وأعادت إليّ تجربة قاسية بعض الشيء.
أوجه التشابه بيني وبينها كانت تلك الأسباب الجمالية.. كانت هي تخشى فك الطرحة لأسباب جمالية، بينما كنت أسعى أنا لخلعها لنفس الأسباب، وأيضا لحماية بشرتي وشعري، فإلى جانب تغطية الشعر الذي يظل مكتوما لا يتنفس ولا يرى ضوء الشمس – خصوصاً لو كانت المرأة تقضي أكثر من 12 ساعة خارج بيتها موزعة ما بين العمل وإحضار الأطفال من المدرسة أو الذهاب بهم للدروس أو النادي، أو شراء احتياجات البيت – هناك أيضاً المساحيق الضارة التي نضعها كجانب جمالي تعويضي للشعر المخبأ، وهو السلوك الذي يشي بالنظرة الخطيرة التي يغرسها المجتمع في أعماقنا، والطريقة التي صرنا ننظر بها إلى ذواتنا ولو من دون وعي، فأصبحنا نحن أيضا نتعامل مع أنفسنا على أننا جسد يجب أن يكون جميلا، دون أن نُدرك – على الأقل طوال تلك الفترة – قيمة وجوهر الجمال الحقيقي. صحيح أننا نهتم بجوانب أخرى، لكن ما يثير حيرتي؛ لماذا يشغلنا أن نكون جميلات الشكل طالما كان العقل جميلا؟! هل لأنه تم تشكيلنا وصياغتنا منذ مرحلة مبكرة؟! \”فالمرأة لا تولد امرأة لكنها تُصنع\” كما قالت سيمون دي بوفوار.
من أين جاءني هذا الهوس بجمال الملامح؟! كانت أمي دوما تحذرني من النظر في المرآة خوفا من إهمالي لدروسي، وظلت تغرس في أن التعليم والدراسة هما الأهم، وأنهما طوق النجاة لي من حياة القرية والفِلاحة. كانت أمي تعرف مصدر خوفي فظلت تعزف على ذلك الوتر الضعيف عندي. رغم ذلك كنت أنظر في المرآة لأتأمل ملامح وقسمات وجه كنت غير راضية عنه.. في طفولتي لم تعجبني أسناني – بعد تعليقات الأقارب والجيران عليها – وكدت ذات يوم أكسرها بيد \”الُهون\” النحاسي لاعتقادي أنها قبيحة وأنها السبب الرئيسي في قبح شكلي، وأني إذا تخلصت منها فإن أسنانا جديدة لابد أن تطلع لي عوضا عنها.
كنت حريصة على أن لا تراني أمي أنظر في المرآة. وفي المرات القليلة التي ضبطتني فيها أخدت نصيبي مضاعفا من العقاب. مع ذلك لم أكف عن النظر في المرآة. والآن يراودني التساؤل؛ من أين جاء هذا الهوس بالشكل؟ تحديدا لا أعرف.. ربما بنات الجيران، أو زميلاتي في المدرسة وأحاديثهن عن الجمال \”التقليدي\”، ربما عماتي الجميلات – أصلا بطريقة عقدتني في حياتي وفي ملامح شكلي – فنظرتهن لي كانت تُؤكد بأني لست جميلة، وبأني طويلة أكثر مما يجب ونحيفة أكثر من اللازم، وربما لأنهن كن يخجلن من السير إلى جواري أمام الناس – لأني كنت أطول منهن رغم أني أصغر – فترسخ في أعماق الطفلة التي كنتها أن هذا الخجل من السير إلى جواري بسبب أني لست جميلة، طبعا إلى جانب مظاهر الفقر المرتبطة أيضا بالشكل. أو ربما تلك المرأة في ستوديو تصوير الفوتوغرافيا بالقرية عندما ذهبت للتصوير عندها واستلمت الصور – الأبيض وأسود وقتها- فوجدتها باهتة، وشكلي فيها يُشبه ريا وسكينة، فقلت لها بعفوية الطفلة: \”الصور باهتة كده ليه؟\”، فردت بسخرية: \”شايفة نفسك جميلة قوي.. حطيهم على النار علشان يغمقوا.\” أو ربما إعلانات التليفزيون عن مساحيق التجميل التي كنت أشاهدها – خلسة من وراء أبي بعد أن نلت عقابي ذات مرة لترديدي كلمات أحد تلك الإعلانات – هي التي منحتني الصور الأكثر ألقا لمقاييس الجمال عند النساء، ولا أستثي طبعا تصرفات بعض المدرسات والمدرسين التي كانت تقول بوضوح إن الجمال يسكن شخوصا آخرين.
لكل ما سبق عمري ما رأيت نفسي جميلة – أو على الأقل لسنوات طويلة – فقد كنت دوما أبحث عن الجمال في تفاصيل الآخريات.. لسنوات طويلة كنت عاجزة عن رؤية الجمال الحقيقي بداخلي، لأن نظرتي للجمال كان قد تم تشويهها، ولم تكن تحذيرات أمي كافية لحمايتي من ذلك التشوه رغم إصرارها على البعد عن المظاهر والاهتمام بالجوهر، لأن نصائحها في النهاية اندرجت تحت بند الممنوع، ولأنها لم تكن العنصر الوحيد الذي أثر في شخصيتي، فالمجتمع كان يُحاصرني.
إذن، لست وحدى.. كلانا – تلك الفتاة الناقدة الشابة الجميلة وأنا، وأعتقد كثير من الفتيات – نهتم بجمال الشكل والمظهر.. الفارق بيننا، أنني لسنوات وربما حتى اليوم، أعتقد أن الطرحة كانت تنتقص من جمالي، وأن المرأة بشعرها أجمل وأكثر بهاءا، إلا في حالات قليلة جدا.. حالات استثنائية فقط تزداد المرأة جمالا بالحجاب، وصحيح أن هناك فتيات ونساء جميلات وهن مرتديات الطرحة، لكنهن قطعا من دون الطرحة أكثر جمالا، ويبدو لمن يراهن أنهن أصغر سنا على الأقل بعشر سنوات، ورغم محاولات البعض إقناعي بأن الطرحة تُؤطر الوجه وتبرز مفاتنه، لكني بقيت على قناعة تامة – من خلال تأملاتي الطويلة ورصدي لجمال الفتيات، خصوصا أنني عشت في مجتمعات نسوية عديدة – أرى أن الفتيات بدون حجاب أكثر جمالا حتى في غياب الماكياج والمساحيق بألوانها المبهرة، فشعر المرأة يُضفي عليها بهاءا طبيعيا لا مثيل له. لكن في النهاية كل امرأة وفتاة تختار ما يناسبها، وجميعنا سندفع الثمن، إن عاجلاً أو أجلاً.
ملحوظة هامة: الثمن الذي أقصده أعني أنه سيُدفع على الأرض، وفي هذه الدنيا، أما ما دون ذلك فلن أنوي الحديث فيه.