د. ألفت علام تكتب: مهمشات ونفتخر

\”يعني أنا لو بطلت مخدرات في حاجة حتتغير؟ في أي حاجة خسرتها حترجع تاني؟ أبويا اللي مات بحسرته عليا.. أخواتي اللي بقيت عار عليهم، وجوزي اللي بيضرب معايا, ده حاعمل فيه إيه؟ وأصحابي اللي بقوا يخافو يردوا على تليفوني لاحسن أكون عايزة منهم فلوس.. كل الناس بقت بتهرب مني.. مش عايزة تعرفني\”

لم أنس أبدا هذا الحوار الذي دار بيني وبين إحدى صديقاتي المدمنات في عام 2003، عندما كنت احاول إقناعها بأن من حقها أن تعطي لنفسها فرصة لبناء حياة جديدة، دون أن تكون المخدرات هي محور حياتها.

لم أنس مشاعر اليأس والغضب التي كانت تعيشها هذه الصديقة وغيرها من أغلب مدمنات المخدرات في مصر, ثم وجدته مشابها تماما في أغلب البلدان العربية.

لم أنس صدق مشاعرها وواقعيتها المؤلمة التي ملأتني بالعجز والقهروقلة الحيلة، خصوصا بعد أن جاءت إلى مصر منهجية جديدة، أثبتت نجاحها في كثيرمن الدول مثل أمريكا، للتجاوب مع مرض الإدمان منذ عام 1989, وبدأت هذه المنهجية تأتي بنتائج إيجابية، لكن مع الرجال من المدمنين فقط، فبعد أن كان مدمنو المخدرات يعاملون على أنهم مجرمون أو منحرفون سلوكيا, أصبحوا يعاملون على أنهم مرضى يعانون من مرض مزمن، هو مرض الإدمان.

ومع هذا التوجه العلمي الجديد وتطبيقه في أكثر من مكان لتعافي المدمنين, أصبح هناك مدمنون استطاعوا أن يغيروا حياتهم إلى الأفضل, بل إلى الأفضل من شخصياتهم قبل إدمانهم للمخدرات، وأصبح هناك أماكن علاجية عديدة تستقبل مدمنين المخدرات الرجال وتقدم لهم المساعدة العلاجية المطلوبة.

لم يفرق هذا المنهج الجديد في التعامل مع مرض الإدمان بين الرجال والنساء, فقد تم تصميم هذا العلاج للنوعين، لكن فرّق بينهم ثقافة المجتمع ومساندة جميع مؤسسات الدولة – تعليمية وقانونية ودينية و…- لهذه الثقافة الظالمة. ففي كل مكان في العالم الغربي، كانت هناك أماكن علاجية للنساء والرجال على حد سواء.. تقدم نفس الخدمة وبنفس الطريقة، لكن في مصر لم يكن هناك مكان علاجي واحد يطبق هذا البرنامج العلاجي للإناث، ويقدم لهن يد المساعدة للتعافي من تعاطي المخدرات حتى عام 2003.. كانت بداية أول مكان متخصص للإناث.. في حين كانت هناك أماكن عديدة تساعد الرجال منذ عام 1989 كما ذكرت من قبل، حيث كان يري المجتمع وأهل المدمن نفسه -أحيانا – أن من المقبول تعاطي أبنهم للمخدرات, والمبررات لا تحصى: \”شقاوة الشباب.. نزوة.. أصدقاء السوء.. حسد وغيرة من الآخرين وغيره\” ليعيش المدمن وأهله في مزيد من الإنكار لحجم المشكلة.

في حين يرى المجتمع وأهل المدمنة أن حياتها انتهت تماما بتعاطيها للمخدرات!

\”علاج إيه وكلام فارغ إيه؟ بنتي ما سبتش حاجة ماعملتهاش.. اقول إيه بس؟! دي عدت كل الخطوط الحمرا، وبعد ما تتعالج وتبقى كويسة.. حتعمل إيه؟ حتعيش إزاي؟ محدش حيصدق إنها اتغيرت، ومحدش حاينسي اللي قبل كده\”.. هكذا تحدثت أم إحدى المدمنات، وأنا أشرح لها ضرورة علاج ابنتها من مرض الإدمان, وأن ليس هناك فرق بين الأنثى والذكر في الأعراض المرضية المصاحبة للمرض, من سلوكيات مضطربة مثل السرقة والكذب والعلاقات الجنسية المتعددة.

المدمنة تلجأ – أحيانا – إلى ممارسة الجنس في مقابل مال لتشتري المخدرات التي أعتمدت عليها, ويقوم الرجل أحيانا أيضا بنفس السلوك, ولا يعني هذا أن هذه مهنتهم, بدليل أنه بمجرد تعافي المدمنة أو المدمن من المرض يتوقف هذا السلوك.

يلعب النوع الاجتماعي لعبته الكبرى, عندما ينتكس المدمن ويعود مرة أخرى لتعاطي المخدرات، ونجد موافقة من الأهل لإعطائه فرصة ثانية وثالثة ورابعة وأحيانا عاشرة لتقديم المساعدة له.. (وليس معني ذلك ان يتوقف الأهل عن تقديم المساعدة)، في حين لا تعطى للأنثى فرصة إلا مع وجود مشكلة أسرية كبيرة, أو تجنبا لفضيحة اجتماعية، والرغبة في إخفائها عن الأنظار لفترة زمنية, وليس للتعافي أو استعادة روحها المفقودة.

الذي يزيد الطين بلة, هو الأنثى نفسها, فإحساس الدونية والقلة التي تم ترسيخها في ذهنها ومشاعرها داخل الأسرة، وأكد عليها المجتمع، جعلها ترى من تعافيها صعوبة مركبة, فهي في الأصل أنثى ومدمنة أيضا.

الأنثى المهمشة من المجتمع والأسرة، هُمشت أيضا أمام نفسها, فلا ترى أن لذاتها قيمة تستحق أن تبذل من أجلها أي مجهود, أو أن هناك أملا للعودة للحياة مرة أخرى.

\”هو أنا فعلا حاعرف أحب نفسي بطريقة مختلفة عن ما كنت متصورة واحترمها؟ ويا ترى أهلي حايعرفوا يحبوني برضه ويثقوا فيا ويقفوا جنبي؟\”

كثيرا ما كانت تردد صديقتي المدمنة هذا الكلام الممتليء بالحيرة والشك والخوف, خصوصا عندما كانت تستعد للذهاب لقضاء إجازة أسبوعية خارج المكان العلاجى, وتبدأ في محاولات للتواصل مع نفسها والمحيطين بها والمجتمع من جديد.

رغم كل هذه الصعوبات، استطاعت الكثيرات من المدمنات أن يقفن في وجه الثقافة وانتزعن حقهن في الحياة, وحققن تعافيا كاملا بقدرتهن وإرادتهن، بل إن كثيرات منهن استطعن إنشاء وإدارة أماكن يقدمن فيها العون والحب لأخريات مازلن يعانين من إدمانهن للمخدرات.

مرت السنوات والمهمشات المفتخرات بكفاحهن مازلن يكافحن.

الأماكن التي تقدم المساعدة للمدمنات لا تتعدى حتى الآن من 5 إلى 7 أماكن أغلبها في القاهرة، في حين أن هناك أكثر من 80 مكان للذكور معلن عنها في العديد من محافظات مصر.

الطريق مازال طويلا أمامكن، لكن إيمانكن بالقضية هو منارة الطريق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top