هاني فوزي يكتب: تجديد الخطاب الديني.. من يريده وماذا يمنعه؟

هل يمكن أن ينكر عاقل منصف أن المؤسسات الدينية وخطابها – إسلامياً ومسيحياً – فى مأزق؟ هل يمكننا ألا نرى أن شرائح ما من المواطنين – خصوصا الشابة منها – ترى أن ما يقدمه الخطاب الديني يضعهم فى حالة مواجهة مع حياتهم وقناعاتهم و زمنهم؟ ألا نرى أننا نجتر إجابات قديمة مفارقة لزمننا – وسياقاته – لأسئلة جديدة ابنة زمن جديد؟ ألا نرى أن هذه الخطابات – مرة أخرى مسيحياً وإسلامياً – أدت لإنصراف قطاعات ما عنها وربما عن كل ما هو دينى؟

يبدو المأزق أكثر حدة على الجانب الإسلامى لارتباط تفسيرات ما لما هو ديني بتنظيمات دموية تهدد سلم واستقرار ومستقبل المنطقة بأكملها.. هذه الحالة ممتدة منذ عقود، ودائماً ما يثار حديث عن \”تجديد\” الخطاب الديني مع كل حادثة لجماعة أو تنظيم إرهابى يرفع راية دينية، ويثار هذا الحديث أيضاً كلما عاد ظهور فتاوى وآراء فقهية – حتى وإن شذت – تمس الحياة اليومية ولا يستسيغها مستقبليها ولا منطقهم ولا زمنهم من العلاج ببول الإبل وحتى إرضاع الكبير.

وتبقى أسئلة: ما الذي يقف فى وجه هذا \”التجديد\”؟ ما الذى يعطله؟ ما هو هذا \”التجديد\” من الأساس؟ الأسئلة تصبح مركبة أكثر إذا طرحنا بعدا آخـر، ما علاقة الأنظمة السياسية بهذا \”التجديد\” ؟ هل الالتباس الواقع بين ما هو ديني وما هو سياسي – وإقتصادى – له دور فى تعطيل هذا التجديد الذي يتحدث عنه الجميع ولا نعرف تحديداً من يريده حقاً؟

\”التجديد هو تنقية التراث مما علق به\”.. كانت هذه هى إجابة الـ\”عالم\” الأزهري عن معنى \”التجديد\” أثناء المناظرة الشهيرة التي وقعت منذ أيام ، أظن أن هذه الإجابة هي أيضا إجابة المؤسسة الدينية الرسمية التي يطلب منها رئيس الجمهورية – وقد وصفه الشيخ الآخـر المشارك فى المناظرة ضمنا بأنه \”الإمام\” – \”تجديد\” الخطاب الديني.

ما يقوله الشيخان هو -في تصوري- العائق الرئيسي ضد أي تجديد للخطاب الديني.. \”التجديد\” عند المؤسسة الدينية الرسمية، هو \”فعل\” يؤدي إلى الماضى، ومن أجله لا \”فعل\” يُفعل من أجل الحاضر وبأدواته تأسيساً للمستقبل، وهو أيضا \”فعل\” يحافظ للنظام السياسي على شرعية دينية.. محاولة أفضل للفهم تستدعي تفكيك تشابك هذين البعدين والتعامل مع كل منهما على حدة.

يبدو الخلاف فيما يخص الخطاب الديني، وكأنه خلاف على النتائج.. هل تزوجت السيدة عائشة الرسول وهي في التاسعة، أم في الثامنة عشر؟ هل هناك حد للردة أم لا؟ وأسئلة أخرى على هذا المنوال، كانت نقاط الخلاف بين المتناظرين في تلك المناظرة.. استعمل المتناظرون نفس الأدوات والمناهج و\”العلوم\” ليصلوا لنتائج مختلفة.. طرفا المناظرة حين يتناولان التراث يشتركان في نفس المعرفة والمفاهيم ونفس أدوات الحصول على تلك المعرفة، ويشتركان في القيم أيضاً، هما تنويعات على لحن أصلي.. ربما تتفاوت براعتهما فى استخدام تلك الأدوات والمناهج أو كم معارفهما.

المؤكد إنهم فقط مختلفون فيما يخص المنتج النهائي.. الطرفان يشتركان في نفس \”العقل\”، وأظن أن هنا نقطة الإنطلاق إلى التجديد، إن أردناه حقاً.

شرع \”العلماء\” المسلمون في تدوين الحديث والفقه والتفسير في منتصف القرن الثاني وإلى منتصف القرن الثالث الهجري، ثبتت أصول \”العلوم\” الشرعية في هذا العصر المعروف بعصر التدوين.. اجتهد هؤلاء \”العلماء\” ليصيغوا من خلال ثقافتهم وموروثهم الثقافي ومحيطهم الاجتماعى وظرفهم السياسي والاقتصادي ونظرتهم لحاضرهم ومستقبلهم وباستعمال مناهجهم وأدواتهم البحثية في ذلك العصر خطاباً دينياً.. صنعوا معرفة، والأهم صنعوا \”أدوات\” لإنتاج هذه المعرفة، هي \”العلوم\” الشرعية.

هم صنعوا مجموعة من المبادئ والقواعد – منذ ثلاثة عشر قرناً – مازلنا نعتمدها فى إستدلالنا.. مازلنا نستعمل منظومة القواعد التي كانت مقررة ومقبولة حينها كنقطة مرجعية في تعاملنا مع حياتنا بعد ألف وثلاثمائة عام. هل يمكن أن تنتج المؤسسة الدينية فقهاً جديداً الآن؟ أظن أن الإجابة لا.. ذلك \”العقل\” الذي تمت صياغته في عصر التدوين – وأدواته – لن يسمح.

أظن أن ما يحتاج إلى تجديد ليس هو الخطاب الديني.. الخطاب الديني منتج، ما يحتاج إلى تجديد هو \”أدوات\” إنتاج هذا الخطاب و\”العقل\” الذي يصنع هذه الأدوات، وإلا فالمأزق سيزداد حدة، سيواجه \”العقل القديم\” بأسئلة أصعب، أسئلة يخلقها تقدم علمي مذهل.. الهندسة الوراثية مثالا – من تحديد نوع الجنين وحتى استنساخ البشر – هنا الإجابات الجاهزة البسيطة حلالا وحراماً ستبدو – وبأكثر الطرق تأدبا- خارجة عن السياق، ستزداد الأسئلة صعوبة مع تعقد الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي إقليميا وعالميا، مع مطالبات تنتشر فى كل العالم من قطاعات شابة بعالم أكثر حرية وانفتاحا وعدالة، مع كسر قيمة \”السلطة\” في العموم.. لا أظن أن \”العقل القديم\” سيستطيع الصمود كثيرا في لحظة يرى العالم فيها أن ما تشهده أيامنا، هو لحظة موت حضارة وولادة حضارة إنسانية جديدة.

يبقى البعد الثانى المعيق لأي تجديد.. إصرار السلطة السياسية – منذ بدايات الدولة الحديثة في مصر – على الإستناد لـ \”شرعية\” دينية.. هنا التجديد إن بدأ سيؤدي –غالبا- إلى إفقاد السلطة السياسية – أي سلطة- إلى هذه الشرعية المتوارثة، التي تستند عليها حين تهتز الشرعية السياسية.. التجديد إن بدأ سيصاحبه إزاحة لمفاهيم سياسية بالية.. التجديد إن بدأ قد ينقض خطابات تسوغ الفقر والاستغلال.. التجديد بهذا المعنى خطر مباشر على مصالح سياسية واقتصادية مستقرة لشرائح من طبقات اجتماعية ومؤسسات وجماعات وتيارات دينية تستفيد استفادة مباشرة من الخطاب الديني بشكله الحالي.

أظن أن تجديد الخطاب الديني يحتاج إلى قوى اجتماعية تدفع لحدوثه، ولا يمكن فصل هذا التجديد عن تطور سياسي واقتصادى وتغيير في علاقات القوة والأوزان النسبية بين القوى التي تطلب التجديد، وتلك التي تعمل ليبقى الوضع على ما هو عليه.

أظن أن السياقات الحالية في مصر والعالم وديناميتها، تعطي فرصة أكبر بكثير لحدوث تغييرات جذرية في مستقبل ربما لا يكون بعيدا.

المفارقة التي تصلح أن تكون ملاحظة ختامية، هي أن بعض الأطراف التي تستفيد حقا من الحالة الراهنة، قد تطلب التجديد بنفسها إن انصرفت القطاعات الأكبر من الـ\”زبائن\” من \”سوق\” الخطاب الديني بشكله الحالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top