د. دينا الخواجة تكتب: مصر: لا ليبرالية ولا ليبراليين

أُصاب بنوبات من الهلع المؤقت في كل مرة يصادفني فيها مقال أو بحث يتحدث عن الليبراليين في مصر، سواء بالخير أو بالشر، وما أكثرهم، ويرجع هلعي في كل مرة إلى صعوبة فهم من الفئة المقصودة بالتحليل بدون الخوض في تاريخ كاتب كل مقال أو بحث واسترجاع مواقفه وسياق إنتاج ما كتب لفهم المقصود بالليبراليين في كتاباته، فما قصده دافيد كيرك باتريك عن فاشية الليبراليين عقب فض اعتصام الإخوان في ميدان رابعة العدوية في أغسطس ٢٠١٣ لا يمت بصلة لما كتبه الدكتور مصطفي كامل السيد منذ عقدين عن صعود الليبراليين باعتبارهم \”نيو ليبراليين\” يقدسون  اقتصاديات السوق في دراسة صدرت له بالفرنسية.. قارن فيها مسارات د. سعيد النجار  المصري ومنصف المرزوقي التونسي وعبدالله العروي المغربي.. أضف إلى ذلك المقال القاسي الذي كتبه مؤخراً د. جوزيف مسعد عن خيانات وتفريط الليبراليين من مصر وفلسطين والجزائر والعراق، موصفا تحول مثقفي التحرر الوطني في هذه البلاد إلى مناصرة الولايات المتحدة ومهادنة إسرائيل، والذي تمت ترجمته للعربية والفرنسية.. يضاف إلى ذلك مثال رابع – انتشر مضمونه كثيرا بين الكتاب الصحفيين العرب-  كالمقال الذي نُشر في الحياة منذ يومين عن \”الليبرالية الملعونة\” بقلم حازم صاغية لشرح إفلاس نقاد الليبرالية في العالم العربي والغربي على حد سواء.

ولإحكام التخبط دعونا نضيف عنصرا أخيرا أكثر استمرارية عما سبق من أمثلة، وهو ما يتجسد عبر تقليد ثابت في الأدبيات الغربية المعنية بالشرق الأوسط Middle East Studies والذي يعني بكلمة ليبرالي حقبة أكثر منها تيارا – مرحلة ما قبل الناصرية- ويحدد ضمنها من اهتموا ببناء نظام سياسي حديث وتنويري أكثر ممن انشغلوا بقضية إجلاء القوات البريطانية عن مصر \”من أمثال أحمد لطفي السيد والعقاد ومحمد حسين هيكل\”.

هذة المقدمة الطويلة كان هدفها إثبات أن الليبراليين العرب عموماً والمصريين خصوصا، يمثلون فئة تحليلية فضفاضة وغامضة يضع فيها كل كاتب ما عنّ له من مجموعات أو أفراد أو أحزاب أو مراحل تاريخية.

ورجوعا للمقصود بالليبراليين المصريين، الذين تكرر كثيرا الحديث عنهم منذ ثورة يناير، تجب الإشارة إلى أنه غالباً ما تم خلط الهوية العلمانية التنويرية بالتوجه الليبرالي دون أية محاولة جادة لترسيخ مضمون المصطلح، فالليبراليون الذين يريدون \”أن أمك تقلع الحجاب\” وفقا لوصف طيف عريض من السلفيين المصريين لا يزيدون سذاجة عما ساقته معظم كتابات مراكز الأبحاث الأمريكية عمن اسمتهم \”الليبراليين المصريين\” واضعةً في سلة واحدة كل التيارات غير الإسلامية \”من مجموعة كفاية، إلى حزب الدستور أو الحزب الديموقراطي الاجتماعي، لكُتاب مثل عمرو حمزاوي وبلال فضل، إلى قادة سياسيين مثل د. محمد البرادعي\”، ويرجع الخلط في التسمية الأمريكية لماهية الليبرالية من كونها تنطلق من الثنائية المؤسسة للحياة السياسية الأمريكية بين محافظين وليبراليين، وذلك لتقلص المجال السياسي على البنى الرسمية هناك ولعدم وجود تيارات يسارية أو اشتراكية تذكر في السياق الأمريكي، كما تعكس  عملية لم \”الشامي على المغربي\” في حزمة واحد، تكريسا لثنائية تم استخدامها كثيرا بشكل ضمني في توصيف الأحداث في مصر منذ ٢٠١١ وتبناها الكثيرون ليصفوا كل أنصار المسار السياسي الانتقالي الرسمي بالليبراليين، في مقابل وصف كل مناصري حشد \”سياسات الشارع\” بأنهم الثوريون.

ولا يختلف الأمر كثيرا في حالة الكتابات الأوربية عن الليبراليين، وإن قلت نسبة الخلط لصالح معنى أقل إلتباسا لليبرالية يركز على قدسية الحريات كعلامة فارقة لما يسميه الأوربيون \”الليبراليين المصريين\”.. هنا أيضا، يلعب التطور التاريخي داخل القارة الأوربية دوره في \”قص ولزق\” المقصود بالليبرالية عندهم، على ما يشبهها من تكوينات عندنا، لنجد خانة الليبراليين تتقلص إلى نجيب ساويرس وصلاح دياب وأقرانهما من ممولي حريات التعبير والنشر وتوسيع اقتصاد السوق.

وهكذا تتكرر معي حالات السخط والضيق بعد قراءة أي من هذه الأمثلة ويقفز في ذهني ذات السؤال: \”هما يقصدوا مين بالضبط، وإيه معيار اختيارهم لهذا الفريق دون غيره؟\”

ربما سأصدمك أيها القارئ بأنني لا أعتقد في وجود تيار أو جناح  سياسي ليبرالي في مصر.. ناهيك عن غياب مفكرين ليبراليين بالمعنى الأكاديمي للكلمة.. هناك في مصر تنويريون يقدسون الحداثة والمودرنزيم ويعتقدون بشدة أن ذلك ما ينقص المصريين لتتحسن أوضاعهم، وهناك أيضاً \”الدولتيين\” الذين يروا في الدولة المصرية وأجهزتها مفتاح أي تغيير قابل للاستدامة، ولذلك فهُم مع معاداة الإمبريالية تارة ومع برامج التكيف الهيكلي تارة أخرى، والمهم دوما أن يكون جهاز الدولة هو راعي عملية التغيير وضامنها، بل ومنفذها، وهناك العلمانيون، وهم تنويعة أقل عددا من التنويريين، وإن تميزوا عنهم باستهدافهم الهوية الدينية كتجسيد لكل التخلف والجمود الذي يجب تقويضهما، وهناك طبعا ما يمكن أن نسميهم بالإشتراكيين الديموقراطيين مثل حزبي الدستور والمصري الاجتماعي، وهناك أخيرا ما يمكن توصيفه بالكُتَّاب الديموقراطيين، الذين لا يمثلوا سوى أنفسهم مثل عمرو حمزاوي أو بلال فضل أو أحمد عبد ربه، لأننا إذا جئنا إلى الأشخاص، سنجدهم فئة قليلة ومحاصرة على الساحة، اهتموا خلال الأربع سنوات المنصرمة بتقديس الحريات كمحور لبناء العقد الاجتماعي، أو ناضلوا بجدية دفاعا عن التداول السلمي للسلطة بين الأطراف المتصارعة، في حين ساد هذه الفترة التبرير وراء الآخر لأهمية استبعاد الفلول ثم العسكر ثم الإخوان، والتغاضي عن حدة الإقصاء، بل والدفاع عن عنف الوصم للأغيار السياسيين كسمة مشتركة للوجوه السياسية المعروفة بدون استثناء.

منذ عقدين، وإبان دعوة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لمقرطة الشرق الأوسط، حرر د. غسان سلامة كتابا جماعيا تحت عنوان \”ديموقراطية بدون ديموقراطيين\”، راصدا فيه صعوبة نقل أدوات المقرطة في سياقات سلطوية، وبنى زبونية كتلك التي تحكم البلاد العربية من الخليج إلي المحيط، ومستخلصا أن ما يحدث ليس بعملية تحول ديموقراطي بقدر ما هو استنساخ لبنى ديموقراطية بدون فاعلين مؤمنين حقيقة بالديموقراطية كفضيلة سياسية محورية، وبنفس المنطق، اتصور أنه آن الآوان لتحرير كتاب جماعي عن مصر بعنوان \”لا ليبرالية ولا ليبراليين\”، لشرح الأسباب الهيكلية التي تحول دون تواجد مجموعات أو تنظيمات مصرية بالمعنى الليبرالي الأوربي المركز على الحريات الفردية والمساءلة، أو بالمعنى الأمريكي المكتفي بالتغيير ضمن سياق سياسي ثنائي الحزبية ، والذي لا مكان فيه لتجاوز الأبنية الرسمية لغيرها من مجموعات هامشية تطالب بالتغيير بشكل أكثر جذرية، خصوصا في ضوء إنغلاق المجال السياسي الرسمي المصري \”بالضبة والمفتاح\”، فبين التنويريين والدولتيين والإسلاميين، وبين النظام العالمي بطموحاته وأولوياته، سيظل بناء جناح ليبرالي أو طليعة ليبرالية مجرد أمنيات غربية تحاول فهم واستئناس هذه الشعوب بأنظمتها المتسلطة وبمعارضاتها المتواطئة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top