\”كان راجل ظالم\”.. أقولها وأختبئ خلف والدتي.. أكثر أماكن العالم أمناً في مثل هذه الأوقات الذي يحتد فيها النقاش بيني وبين أبي، فما إن يسمعها والدي حتى تقوم الدنيا ولا تقعد.. كيف لولده أن يسب عبد الناصر في بيته، سيقوم الآن باستعراض إنجازات الرجل، ثم يشير على صورته معه حينما استضافه في مكتبه ليمنحه وسام الجمهورية مكافأة على مجهوداته في بناء السد العالي.
كم أحب أن أرى هذه الحماسة في نبرته، على مقدار كراهيتي للحقبة الناصرية.. يجذبني الحلم النابض في عينيه.. لايزال يتطلع للمستبد العادل، لم أعهد والدي مؤيداً لنظام مبارك، وكان أشد ما يكره سيرة السادات، وأحياناً كان يعترف بين الحين والآخر في خضم نقاشنا بأن عبد الناصر كانت له سلبيات، لكنه الوحيد ممن حكموا مصر الذي يمتلك إنجازات، دائماً والدي ما كان مُرابطا على أمنية العزة والكرامة الذي زرعها عبد الناصر في جيله.. كل جرائم حقوق الإنسان التي ارتكبت في عهده ارتكبها حاشيته، هو لم يعلم بها، وحتى لو كان يعلم فماذا تكون هذه الأخطاء أمام إنجازاته التي لا تحصى؟!
ثم إن لم يكن هناك راجل صعيدي حر حكم مصر اسمه جمال عبد الناصر، ما كان أبوك تعلم ولا حتى أنت يا ابن إمبارح، ثم يختتم مديحه في عبد الناصر بأبيات من قصيدة الخال:
مش ناصري ولا كنت ف يوم
بالذات فى زمنه وف حينه
لكن العفن وفساد القوم
نسّانى حتى زنازينه..
إزاى ينسّينا الحاضر..
طعم الأصالة اللي في صوته
يعيش جمال عبد الناصر
يعيش جمال حتى في موته
صرت أحفظ هذه الأبيات عن ظهر قلب، فكلما تحدثنا عن عبد الناصر، إختتم كلامه الذي لا يمكن إيقافه بهذه الأبيات، حتى أقول معه بصوت أعلى قليلا: \”يعيش جمال حتى في موته\”، بهذا التصرف يهدأ أبي، وأضمن استمرارية المصروف أيضاُ، فكما قال عبد الناصر \”من لا يملك قوت يومه لا يملك حريته\”، واتنازل – مؤقتاً – عن رأيي في الزعيم أمامه حتى يحين وقت نقاش آخر، في الغالب لن ينتهي نهاية مختلفة كثيراً.
\”حراجي القط، يامنه، فاطنة أب قنديل\”.. شخصيات تزخر بها قريتنا.
تيقظني والدتي مع أول شعاع صباحي يغزو غرفتي.. أرتدي ثياب العيد ثم أنطلق ممسكا بيدها باتجاه المقابر \”الميت يزعل يا ولدي لو ما روحناش قرينا له الفاتحة في العيد\”.. هكذا كانت تقول ليّ أمي، وهكذا كنت استقبل الساعات الأولى من العيد، ستمر عليّ ساعات أكرهها.. لا أدري لماذا يذهبون للمقابر في يومٍ كهذا؟!
لكن علمي بأن أبي سوف يصطحبني في المساء للقرية، أو كما كنا نقول دائماً \”البلد\”، كي أقدم واجب التهنئة بالعيد للعائلة، ثم أذهب للعب مع أقراني، كان يقلل من ضيقي بالمقابر قليلا، وما إن أشتم رائحة السعف وحرق قش القصب في مدخل قريتنا بمحافظة الأقصر حتى يندفع في ذهني دون إرادة مني أبيات الخال في العمة يامنه؟!
لسه بتحكي لهم بحري حكاية
فاطنة وحراجي القط..؟
آ.. باي ما كنت شقي وعفريت
من دون كل الولدات.
كنت مخالف..
برّاوي..
وكنت مخبي في عينيك السحراوي
تمللي حاجات.
زي الحداية ..
تخوي ع الحاجة .. وتطير .
من صغرك بضوافر واعرة .. ومناقير.
بس ماكنتش كداب.
هكذا كانت تتحدث المرأة العجوز التي تُوقف والدي عند منعطف شارعنا بالقرية، بنفس اللهجة وفي نفس المواضيع، ما إن تراه وتنطلق الكلمات دون سابق إنذار أو ميعاد محدد لنهايته، وكأنها لم تتحدث مع أحد منذ سنوات، أشاهدها وهي تشد على يد والدي، وفي مخيلتي الصورة العبقرية التي رسمها لها الأبنودي في صورة العمة يامنه.. كانت أشعار الأبنودي بصوته تلازمني طوال الفترة التي أقضيها بقريتي.. صدق كلماته صنعت من قصائده مادة حية بتفاصيل القرية وناسها وأحوالها.. ترى أشعاره تتمخطر أمام عينيك.. يمكنني هنا أن أرى حراجي القط يخرج من داره في الفجر يجر حماره إلى الزرعة \”الأرض\”.. أرى فاطنة قنديل في صورة عمتي، تذبح طيورها وسط الدار كي تطهي للعائلة المائدة المُنتظرة كل عيد.. اليوم لمة ربنا يعيدها علينا بخير.
ارتبط شعر الأبنودي عندي بقريتنا، فهو لسان حال الهاموش في أقصى نجوع الصعيد وأبعدها عن العاصمة، المنسيين بفعل السلطة والذكرى وموت الأحباب.. ثلاثة محاور لا تغفلها قصائده دوماً.
الأبنودي المولود في 11 أبريل عام 1938 بقرية \”أبنود\” بمحافظة قنا، خرج عن طوع والده المأذون الشرعي وشاعر الفصحى، فقد كتب على غير رضا والده قصائد بالعامية، وهو ابن العارف بأصول اللغة، وصاحب ألفية في النحو، وقصيدة على نهج بردة الإمام البوصيري.. ترك الأبنودي منزله متجهاً إلى مصر المحروسة، بعدما مزق والده قصائده أمامه.. يتلمس موضع قدم تحت شمس العاصمة، وسرعان ما قدمه الشاعر صلاح جاهين في باب \”شاعر أعجبني\” بمجلة صباح الخير، ومن هنا بدأت إنطلاقته.. يكتب أغان بالإذاعة لألمع النجوم، ويصدر ديواناً بعد الآخر يحمل من زخم الأحداث السياسية، وألاعيب الدنيا، وإنكسارات جيله وإنتصاراتهم، وأيامه الحلوة، لكن أهم أعماله، بل وأهم الأعمال في المكتبة العربية، تتمثل في \”السيرة الهلالية\”، حيث طاف بلاد الصعيد ليجمع السيرة ممن تبقى من رواتها شفاهة، فحفظ السيرة من الضياع، ليسطر بذلك اسمه بين أهم شعراء العامية في عصرنا، لكن تبقى مواقفه السياسة في أواخر أيامه مسار جدل لا يمكننا تجاهلها في معرض حديثنا عنه.
وأصدقكم القول إنني لم أشك لحظة في صدق الرجل عندما أيد السيسي، فطالما كان الشاعر الرومانتيكي الذي حلم بالبطل المخلص لأمته.. إنه ابن الدولة الراعية المُربية.. الابن الذي شعر مع أغلب جيله بحزن عميق على وفاة عبد الناصر.. وتد الخيمة كما كانوا يلقبونه، فذهب كل منهم يرثيه رغم آثار سياط السجان على ظهروهم، فقد قال فيه الفاجومي \”وإن كان جرح قلبنا.. كل الجراح طابت.. ولا يطولوه العدا.. مهما الأمور جابت\”.
إن كل الأجوبة المعلبة، والرؤية الأحادية التي تقسم العالم إلى منافقين ومناضلين، بين ملائكة وشياطين على غرار أفلام الأبيض والأسود، لا يمكنها تفسير هذا التحول السريع في موقف الأبنودي وأغلبية جيله من عبد الناصر، ثم تأيدهم للسيسي من بعده في خواتيم أيامهم، على اعتبار أنه امتداده، خصوصاً الشعراء منهم، وأحسب أن عاطفة الشاعر فيهم هي من تحدثت لا الحسابات السياسية ونظريات الحكم، وحساب المصالح والمفاسد من جراء سياسات هذه الحقبة.. عاطفة زرعتها بهم مكينة عبد الناصر الدعائية، التي اختصرت لهم الوطن في شخص الرئيس، وما لبث أن كانوا هم جزءا من هذه المكينة بعد وفاته، وشكلوا بأشعارهم وجدان الأجيال اللاحقة.. لا أعذرهم في صناعة أسطورة العزة والكرامة، كما لا أدينهم أيضاً، فقد رحلوا إلى مقام خيرٌ مما نحن فيه، وتركوا لنا الكثير من الأعمال الجيدة.
وظني أننا سرعان ما سننسى تصريحات الأبنودي الأخيرة، كما كان الحال مع غيره من عظماء الكلمة والنغم، وسنتذكر فقط وجوها على الشط، ووجوه البسطاء في قصائده.. حراجي القط ويامنه وفاطنة اب قنديل وجمالات:
بياع الوشْنة يا جمالات
اللي العصرية بيزمر ويفوت
م اليوم مش حيفوت
ولا حينادي على المانجة ولا التوت
زي ما كل الناس بتموت
بياع الوشنة يا جمالات
مات….
ومات عبد الرحمن الأبنودي وستبقى أعماله.