وُلِد في شهر يناير.. جاء بعد أن شاع في الأرض الفساد، و فاض عن الحد، وكان يجب أن يحدث تغيير.. جاء برسالة حب للجميع.. رسالة ضد الظلم والقهر والعبودية.. رسالة للحرية و العدل، ولأن هذه الرسالة شكلت خطرا كبيرا على الحاكم الظالم, لذا فقد حاول الحاكم قتله في طفولته، لكنه فشل, غير مدرك أن هذا الفشل ستكون نتيجته نهاية هذا الحاكم الظالم.
كَبر وكبرت معه رسالته.. انضم له الكثيرون في البداية.. بعضهم عن اقتناع حقيقي وبعضهم كان يضمر نوايا ظهرت في وقت لاحق.. كان شعاره \”سلميّة\”، و تحمل الكثير من أجل هذا, ومع ذلك في بعض الأحيان تخلى عن هذه السلمية وغضب واستخدم العنف، عندما دنس الباعة والصيارفة الهيكل. بالرغم من أن رسالته كانت الحب، إلا أنه جاء في زمن لا مكان فيه للحالمين والمثاليين, فكان طبيعي أن يختلف عليه الناس، وتحدث بينهم المشاجرات والخلافات، حتى في داخل العائلة الواحدة، انقسم \”الأب على الابن والابن على الأب والأم على البنت والبنت على الأم والحماة على كنتها والكنة على حماتها\”، فأصبح من الطبيعي أنه في أي جلسة عندما يتم ذكر اسمه، تجد من يصيح, وفي الأغلب ما يكون كبيرا في السن, ويقول: \”أهو ده اللي خدناه منه\”، وفي نفس الجلسة تجد شابا ما مؤيدا له ويدافع عنه بكل حماس.
بالرغم من أن عمره لم يدم طويلا, إلا انه حقق تغيرا كبيرا، خصوصا في الجيل الصغير.. كان يعلمهم أهمية الخبز, والحرية والعدل.. كان يعلم أن هذه هي الأشياء التي يحتاجها شعبه قبل أي شيء آخر، فحاول إشباع الآلاف بالخبز, وتحرير المحبوسين ظلما.. الحرية ليست فقط من الحبس الجسدي, لكن حرية الفكر.
كان ثائرا على كل المعتقدات العتيقة.. ضاربا بعرض الحائط كل تابوهات المجتمع، والعادات البالية العقيمة.. ثار على الفكر الديني المتطرف, وثار على الخنوع للشيوخ واستغلالهم وفسادهم.. ثار على كل المسلّمات والثوابت, في الأكل.. في الملبس.. في اللغة, وفي كل شيء.
ولأن ذلك كان ضد المجتمع وعاداته وتقاليده الراسخة, بدأ الناس في كرهه. وبدأوا يتساءلون: ماذا يظن بنفسه هذا الشاب؟ هل هو مجنون أم خائن؟ إنه يثير الفتنة في المجتمع، ويهدد الأمن والأمان والاستقرار الجميل الذي ننعم به تحت حكم الحاكم الروماني.. لا يمكن أن نساوم على استقرارنا, حتى الذين لا يحبون الحاكم الروماني لا يستطيعون المساومة على الاستقرار ونعمة الحياة اليومية الرتيبة، والتي جاء هذا المتمرد ليهددها ويعبث بها.. يحب علينا القضاء عليه.. لا يمكن أن يستمر.. يجب أن يموت مهما كان الثمن.
لا ننكر أنه أيضا حظي ببعض من لحظات المجد والتأييد الشعبي.. ففي يوم دخوله المدينة تجمع حوله الملايين في الميدان يهتفون له, لكن نفس هؤلاء هم من هتفوا ضده بعدها بفترة قصيرة.. لماذا هتفوا له في المقام الأول.. لا نعلم!
إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله.. جاء ليكون لهم حياة ولتكون لهم أفضل, لكنهم لم يقبلوه، ولم يقف الوضع عند مجرد الرفض.. لا، فما كان منهم إلا أن نزلوا في الشوارع والميادين يهتفون: \”أصلبوه.. اعتقلوه.. عذبوه.. دمه علينا وعلى أولادنا\”، بالرغم من أنه جاء ليدافع عنهم وعن حقوقهم ضد الظلم والقهر, ولأجل عيشة أفضل, لكنهم أيضا لم يرحموه.. هذا الحالم المثالي الساذج, جاء في زمن لا قيمة فيه للمثاليات.. لا مكان فيه للخير.
بالرغم من أنه كان مدركا تماما أنهم يكرهونه, إلا أن هذا لم يمنعه من أن يدفع حياته ثمنا لخلاصهم.. كان يدرك جيدا أنه لن ينال أي تكريم في حياته, وأن مصيره هو الموت, لكن ثمن هذا الموت هو حياة الملايين ومستقبلهم.. عندها فقط أدرك أن هذا ثمنا رخيصا ليدفعه عن طيب خاطر.. كان يعلم جيدا أن موته هو السبيل الوحيد لخلاصهم من الظلم والقهر.. كان يدرك جيدا أنه يسير في طريق بلا عودة.. نهايته الموت, لكن الهدف كان أسمى وأنبل.
سلموه للحاكم الظالم ليقتله، وذهبوا هم ليحتفلوا في الميدان.. هو لم يغضب.. لم يكرههم كما كرهوه, بل بالعكس, سامحهم, حتى وهو في قلب الألم والموت.. سامحهم لأنه كان يعرف أنهم لا يعلمون ماذا يفعلون، فهذا هو المقدر والمكتوب.. لا خلاص لهذا الشعب سوى بدمائه هو شخصيا، وليس أحدا آخر. موته لم يذهب سدى، وتعاليمه وأفكاره ومثالياته لم ولن ينجحوا في إخفائها والقضاء عليها.. ستنتشر فيكم وفي أبنائكم وأبناء أبنائكم، وفي يوم ما ستعلمون جميعا أن إبن يناير لم يمت.. نعم لقد حبستوه وعذبتوه وقتلتوه, لكنه قام, بالحقيقة قام.
عيد قيامة مجيد للجميع