د. محمد أشرف حماد يكتب: جنيهان فضة وشهيد وبتاع مراجيح

(1)

\”عاوزة أروح المراجيح يا محمد! وعاوزة أقعد على النيل! ومفيش نقاش.. النهاردة أجازتك، وده اليوم بتاعي!\”

تهتف شيماء زوجتي بتلك العبارة الجميلة – كما ترى- ثم تعقد ذراعيها على صدرها، وتنظر إلي في تحد.. لا مفر, سأحاول أن أفعل ما أؤمر به، واذهب مع زوجتي إلى المراجيح! ونيل كمان؟

تذكر أن زوجتي سكندرية الأصل، وهم قوم عجيبون حقاً كأسماك التونة.. لابد لهم من الماء كي يحيوا حياة طبيعية.. صمتُّ مفكراً, ثم تذكرت أن أحد أصدقائي أخبرني عن منتزه يسمى حديقة المعادي، يتبع القوات المسلحة.. أسعاره معقولة ، وفي حضن النهر المسكين.. إلى المعادي إذن.

(2)

يكثر الكلام عن احتماليات التدخل العسكري المصري البري في دولة شقيقة لحماية مصالح إقليمية، أو لمواءمة سياسية وضعت مصر في كفة من يضحون بلا مناقشة، وإلا كانت جاحدة ناكرة للجميل.. لا أعلم.. هل من الحكمة أن نرسل جنودنا الذين ننتزعهم من أحضان أمهاتهم, ونلقي بهم ليموتوا في دولة ثانية, في حرب ضد دولة ثالثة, دفاعا عن دولة رابعة؟! يبدو أن السياسة مهلكة بشكل عام كما يقولون.

(3)

نعبر البوابة.. أنا في توجس وشيماء في فرحة طفل صغير يذهب إلى المولد ليشتري بالوناً أحمر.. فور دخولي, الاحظ مساحة الحدائق الشاسعة حولنا.. فراغ مهيب حقا بلا مبالغة, وقطعة أرض مترامية الأطراف لا تدركها عيناي.. ارى الأشجار العالية, والجنود على البوابة الضخمة وفي الداخل يرتدون الزي المميزللمكان.

اتأمل الحياة النابضة حولي كخلية نحل مزدحمة, والزوار يدخلون بعد أن يدفعوا قيمة الدخول أو يبرزوا بطاقات عسكرية مميزة.. أخرج تذكرتين من جيبي واتأمل عبارة \”تذكرة دخول لغير العسكريين\”، واشرد لثوان.. تقطع شيماء شرودي وتقترب من أذني لتهمس: \”هو المتر هنا يطلع له بكام؟!\”

 

(4)

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: \”من مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون دمه فهو شهيد، ومن مات دون أرضه فهو شهيد\”.. من قتله بطنه فهو شهيد، من قتل فى الغرق أو الهدم فهو شهيد.. المرأة الجمعاء تموت في نفاسها فهي شهيدة.

هناك أيضا شهداء الحرية الذين قتلوا وهم يطالبون بحقهم في حياة أفضل, وهناك شهداء قتلوا وهم يحملون ورودا، فأصابهم وابل من خرطوش.. السؤال الآن: هل ينظر الله إلى شهداء المواءمة السياسية وإستراتيجيات رد الجميل؟ هل يقبل الله التجنيد الإجباري؟ عذراً.. هذا سؤال سخيف.. انس أني سألته.

(5)

تتعلق شيماء بلعبة مملة أمامنا، فتذهب لتجربها, وافضل أنا الوقوف في مكاني, ثم يأتي إبراهيم ليقف بجواري.. إبراهيم شاب صعيدي في أواخر عقده الثاني.. مجند بهذا المكان.. له تلك العيون الواسعة المندهشة للبسطاء.. من قال إن أبناء الجنوب أغبياء؟! لم أقابل في حياتي منهم إلا الأذكياء متقدي الذهن شفافي الأرواح كأوراق الياسمين.. نتجاذب أطراف الحديث دون تكليف.. يدرك إبراهيم من ذقني نصف النابتة وشعري الثائر أني لست عسكرياً كما تقول تذكرتي, فيتحدث متبسطاً:

\”والله يا باشا فضل ونعمة.. أنا هنا ليا 4 شهور.. كنت الأول باخدم في مكان لا يعلم به إلا ربنا, وبعدين أبويا اتوسط لواء عندنا في المركز، فكلم حبايبه واتنقلت هنا.. أنا هنا يا باشا واقف على الفناجيل.. المرجيحة اللي بتلف قدامك دي.. أنا وسعيد زميلي بنبدّل, وبينزلوني أجازة كل عشرين يوم.. طبعا مش قايل لأبويا وأمي أنا بعمل إيه هنا\”.

ثم يصمت إبراهيم، فأحترم صمته, ويتابع: \”أنا واد على بنتين وأخين صغار.. كنت مجدع وشايل الحمل مع أبويا اللي العيا نحل وبره, وبعدين اتجندت.. أهلي فاهمين إني باخدم البلد.. بذمتك ينفع أقولهم إني واقف على الفناجيل؟ هو أنا بحارب الأعداء يعني؟ يا بيه الملافظ سعد.. مش لازم أهلي يعرفوا إني بتاع مراجيح\”.

تأتي شيماء واودع إبراهيم بنظرة لا يراها، وهو يهرع إلى سور اللعبة ليفتحه ويخرج الأطفال, ثم يمنحه أحد الأهالي جنيهين فضيين، فيتقبلهما شاكرا بنصف إنحناءة وهو يهتف: \”متشكرين يا افندم.. مع ألف سلامة يا أفندم\”.. اتجول مع شيماء قليلا، ثم نقرر أن نمضي سهرتنا في مكان آخر.

على بوابة الخروج، اتذكر شيئا مهما, فأخرج التذاكر وأقطعها بلا اكتراث، واقذفها في رحم الشارع, واتأبط ذراع زوجتي ونذهب.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top