\”بعد يومٍ طويلٍ شاقٍ، بين إجهاد عمله اليدوي وثِقَل الحمل على ظهره وتَعثُّر خطواته في الطريق الضيقة المزدحمة، وبعد المناكفة والمشاكسة مع العابرين من أهل القرية، ومع الأطفال الذين ملأوا الطرقات، بعدما ضاقت بهم البيوت، لم يجد \”عبد الكريم\” ما يُسرِّي عنه ويروِّح قلبَه ويمنحه شيئاً من المتعة، إلا ليلة يقضيها مع زوجته؛ هذه هي المتعة الوحيدة المتاحة مع ضيق ذات اليد وفقر حال مجتمعه\”.
هذه بإيجاز هي اللقطة التي رسمها \”يوسف إدريس\” بعبقريته في قصة \”أرخص ليالي\”، ليُكثِّف حال مجتمع بأكمله؛ مجتمع لخص ملذاته ومتَعه ومسراته في الجسد.. وليست المتعة فحسب، الحقيقة أن الأمر ربما تعدى ذلك بكثير، حتى صار الجسد هو محل القيَم والقيمة، وميدان المعركة مع الحياة!
جسد \”فاطمة\” كان هو ذلك الميدان.. في قصة \”حادثة شرف\”، التي انشغلت فيها القرية كلها بحادثة لم تقع حقيقة، وإنما كوسواسٍ أصاب أهلها جميعاً، في ذات اللحظة بعد سماعهم صرخة مدوية كأنما كانوا ينتظرونها لتحقق لهميقيناً ما! لتحقق لهم الانتصار الذي لا يملكون بلوغه في معركة أخرى، إلا جسد فاطمة.
فاطمة التي تمثل الأنوثة أكثر منها تمثيلاً لمعنى الجمال.. الأنوثة التي تترجَم في أذهانهم إلى الإغواء أكثر منها إلى معنى الخصوبة، و\”غريب\” الشاب الفتيّ، بجسده أيضاً الذي يثير-في هكذا مجتمع- الريبة والتربص.
في سرده عبَّر إدريس عن مشاعر فاطمة وغريب، أحدهما نحو الآخر، بأنها كانت تخافه خوفها من \”العيب\”، وأنه كان يخافها خوفه من \”العجْز\”.. وصفٌ استطاع به أن يُجْمل موقف المرأة والرجل، في بلادنا، من الحياة.
لن نحتاج إلى كثير بحثٍ حتى نكتشف أن أغلب قضايانا تتعلق بالجسد، بالشكليات والمظاهر، قضايا تشغل الحيز الأكبر من اهتمامنا بين متمسك بها، وبين \”مناضل\” ضدها.. جُلها يدور حول الملبس والختان وتعدد الزوجات والتحرش والاغتصاب وحوادث \”الشرف\”، والنمص واللحية والصبغة، وغيرها.
والأمر ليس قاصراً على الحديث الديني، من الشيوخ وطلاب الفتاوى وعموم الناس، وإنما تعجب حين تصدمك كتابات بعض المثقفين الذين لا يشغلهم إلا نفس القضايا مع اختلاف المنظور.. والحقيقة أنه لا فرق بين من يحصر الدين في الملبس وبين من يحصر معنى التحرر في خلع الملبس!
لماذا تحول كلُ معنى راق عميق إلى هذا الابتذال والتسطيح حين اهتممنا نحن به ووضعنا عليه ترجمتنا الخاصة؟!
يتنازع الإنسانَ عقله ووجدانه وجسده، وحين فرَّغنا العقل وتجاهلنا الوجدان، لم يعد أمام مجتمع فقير إلا جسده.. به يعرف الدنيا ويعرف نفسه والآخرين، وبه يحارب ويعارك وينافس، وعنه يجادل!
أبداً لم يكن الدين محملاً بكل هذا الكم من الأوامر والنواهي الشكلية، بل إن جُل الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، عنيت أكثر ما عنيت بالعقل والعلم والقيم الروحية، فمن يقرأ القرآن أو يسمعه، لن يكاد يفتر عن الهم بتوجيه الله عز وجل وأمره بالتفكر والتدبر والبحث عن العلم والسير في الأرض للاكتشاف والمعرفة، لكثرة ما حملت الآيات من حثٍ عليها واحتفاءٍ بها ومدح لأهلها وذمٍ فيمن يزهدها ويهملها ويهجرها.
ومن يبحث في السيرة النبوية، سيدهشه دقة الاعتناء من الرسول الحبيب عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام بالمشاعر والجوانب الاجتماعية والنفسية لكل من يتعامل معهم، وهكذا جاءت أوامره وتوجيهاته لترقية المعاملات ومراعاة الآخر، وكان وصفه من رب العالمين: \”وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ\”.
أبداً لم يأخذنا الدين للطواف حول الجسد، وإنما نحن الذين حملنا الدين وطفنا به حول الجسد!
وأبداً لم تكن قضية الحرية فيما نلبس وما نخلع، بل في القدرة على التفكر والتعلم والابتكار.. وهذا أمر يحتاج إلى \”إرادة جماعية\”، إلى احتفاء واهتمام وإحياء؛ حينها ستتضاءل أزماتنا ومشكلاتنا المتدنية، ستشغلنا قضايا أكبر ومعارك أهم؛ حينها لن يقيِّم أحدنا الآخر باختياراته الشخصية في الملبس والحياة، ولا حتى في المعتقد، وإنما بمنتجه الفكري والعلمي
والعملي ومعاملاته وجماله الروحي.
الإرادة الجماعية، التي لازالت ترفض الآخر، أياً كان هو أو ما يمثله أو ما يأتي به.. تلك الإرادة التي صورها الراحل \”سليمان فياض\” في روايته \”أصوات\”، حين جاءت إلى القرية زائرةٌ مختلفة، بفكر وملبس وعادات وشكل ورؤية للحياة تختلف عما ألفوه، وحين عجزوا عن فهمها وعن منافستها وعن تقبلها بصدروهم وعقولهم التي ضاقت، لم يجدوا إليها سبيلاً أيضاً إلا جسدها.. هذا ما يعرفونه.. فقتلوها بوعي غير عامِد، ولاوعي متعمد!
حين يتجه احتفاء المجتمع بقيم العلم والعمل والخُلق، سيتحقق تقدير الذات عند مَن أهملناهم حتى خرجوا علينا في الشوارع بجرائمهم وانتقامهم وغضبهم، فحين يعجز الإنسان عن الإعلان عن نفسه.. حين يفتقد التقدير اللائق والاحترام، سيجد دائماً ما ينبه به الآخرين لوجوده، ولو بجريمة! مثل تلك الجرائم التي لن تمنعها أوامر ولن تنهيها قوانين، فأنت أمام كائنات عطلت عقولها، فتعطلت لديها القدرة على التمييز وفتر لديها حتى الخوف الذي يحمي الإنسان أحياناً من ارتكاب ما يجره إلى العقوبة؛ فبمَ تفيد القوانين في هذه الحالة؟!
فحين تغلق باباً عليك أن تفتح غيره، حين تَنهي عن شيء عليك أن توجد
البديل، والبديل الوحيد أمام هذا التردي الذي وصلنا له على كافة المستويات هو أن نتطلع للأرقى، لا أن نستمر في نفس دوائر الحوار حول نفس القضايا والجرائم والأزمات، أن نوجد البديل للتحقق والمتعة والشعور بالقيمة، أن نفتح الباب لمعرفة جديدة، ونفتح نافذة للوجدان من خلال
الفنون، ليس فقط بإتاحة متابعتها وإنما ممارستها.. والأهم، بإحياء قيمة العمل وبتجريم من يُحقِّر من شأن مهنة أو وظيفة بما ينفر الشباب منها ويشعر أصحابها بالتدني، وهذا شعور خطير مدمر لو نعلم.
لقد فعلنا في أنفسنا مثلما فعلنا في أرضنا، حين تركنا المساحة الأكبر وتزاحمنا في خطٍ ضيقٍ، نتكاثر ونتعارك ونتقاتل عليه ونتنازع على الأنفاس فيه ونحن نلهث، فلا نحن أحسنَّا استثماره واقتسامه بيننا، ولا نحن خرجنا إلى أوسعه نعمره ونتمتع به ويكف بعضنا عن الآخر أذاه، كذلك فعلنا حين أهملنا العقل ودوره، وسخرنا من القيم الأخلاقية والروحية، وابتذلنا الفنون واستجبنا فيها لما يرضي فئات حرمت من البدائل.. وأقمنا الحياة كلها على أجسادنا، استهلاكاً وتنازعاً، إكباراً من البعض وابتذالاً وتحقيراً من الآخر، وما انتبهنا إلى الكون الأوسع، الأرحب والأثرى، خارجه!