منذ عدة سنين ضوئيه – لا اعرف عددها- كنت اعمل نائبا للأشعة العلاجية في معهد الأورام القومى.
اذكر يوما جاءتنى فيه مريضة سرطان ثدى \”لإعاده التخطيط\”، وهو إصطلاح معناه أن نعيد رسم الخطوط والعلامات التى نرسمها مباشرة على جسد المريض، لكى ترشد فنيي الجهاز الإشعاعي عن كيفيه إعطاء العلاج بالشكل الصحيح.
بينما كنت اقوم بذلك بالشكل الروتيني البارد المألوف، لاحظت أن المريضة تبكي في صمت.. ارتبكت قليلا ثم سألتها:
\”مالك يا أمى، فيه حاجه وجعاكي\”؟
هزّت رأسها بالنفي في صمت، غير أن المرافقه أجابت بالنيابة، \”أصل جوزها اتجوز عليها\”.
في الدقائق التي تلت ذلك، علمت قصتها كامله.. معاكساته الأولى لها وهي في طريقها للمدرسة في الزقازيق.. تفضيلها له على ابن خالتها.. الانتقال للقاهره.. فشل المشروع الأول، وشظف العيش.. السفر للخليج.. طفلهم الأول ذو الإعاقة.. سهرها وحدها على مشروعهم في مصر، والأولاد الذين توالوا.. اليسر بعد العسر، ثم قبل استقرار الحال يأتي السرطان وشبح الموت والآن.. الزوجة الثانية.
فيما يبدو أننى لم استطع إخفاء ألمي وإستيائي من تصرف الزوج، فاستطردت المرأه تبرر سلوك زوجها وسط دموعها، بينما ترتدي ثيابها البسيطة: \”ما هو برضه معذور يا دكتور.. ما أنا ماعدتش أنفعه.. وبعدين هو بيقول إنه من حقه.. الشرع بيقول أربعة.. صحيح.. الراجل ماعملش حاجة تغضب ربنا\”.
القهر في بلادي طبقات.. \”كظلمات في بحر لجي يغشاه موج، من فوقه موج.. من فوقه سحاب.. ظلمات فوقها فوق بعض\”.. الحكومة تقهر الجميع، وللفقراء تضاف طبقة، وللمرضى طبقة، وللأقليات طبقة، وللنساء طبقة، ثم فوق هذا يأتى القهر الناتج من تصوّر أن المتسبب \”ماعملش حاجه تغضب ربنا\”!
منذ سنوات دراستي الجامعية، لا اذكر أني دخلت نقاشا من أى نوع يخلو من مصطلح \”الحلال والحرام\”.. هل الاختلاط حلال؟ هل معاهدة السلام مع إسرائيل حلال؟ هل زراعة الأعضاء حلال؟ هل قسط الثلاجة حلال؟
المجتمع كله صار مشغولا بتتبع الحلال وتوصيفه، ونسينا أو تناسينا أن نتدبر ما هو الصواب، ما هو الأصلح وما هو الأخلاقي.
تذكرت هذا الموقف وأنا اتابع النقاش الدائر حول الحد العمري الأدنى لزواج الفتيات، حيث الإسلاميين – والأزهر- لا يروا بأساً من عدم وضع حد أدنى لزواج الفتيات، ولا حتى اشتراط البلوغ تماشيا مع رأى قدامى المفسرين للفظه \”واللائي لم يحضن\” فى الآيه الرابعة من سورة الطلاق، وبالتالي – ومن وجهه نظرهم- الزواج من الأطفال \”حلال\”!
للآية السابقة تفسيرات أخرى أكثر مواءمة لروح العصر، وأكثر إنسجاما مع روح القرآن الإنسانية المتجددة، مما ستجده في ابن كثير أو الطبري، لهذا يكون الإصرار على تفسيرات بعينها غيرمفهوم.
ولكني اسأل: حتى لو أن زواج الأطفال كان حلالا يمارس وقت ابن كثير، أيجعله هذا صوابا الآن؟ أيجعله مقبولا من الناحية الأخلاقيه والاجتماعيه والإنسانيه؟ أيجعله مناسبا؟!
أليست الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية كافية، أم أننا حقا بحاجة إلى أن نجهد أنفسنا لكى نجد مبررا شرعيا للإنسانية؟!
هل نحن بحاجة إلى أن ندافع عن أنفسنا، حينما نحاول أن نحافظ على تقنين ما هو معروف بالفطرة، ومقبول بالعرف ومؤيد بالعلم.
الحلال والحرام ليس هو الصواب والخطأ، وليس كل حلال صائب ولا كل حرام خطأ، وكما أن للقوانين روحا، هي تحقيق العدل، فإن لأحكام الدين روحا وغايات هي القصد والغاية، وإن لم يصاحب اتباع الحلال وتجنب الحرام فهما أخلاقيا للغايات ولروح الدين، فلن يؤدى اقتفاء الحلال واجتناب الحرام لصلاح فرد أو إصلاح مجتمع.
أحقا يكون زوج مريضتي المسكينة \”ماعملش حاجة تغضب ربنا\”؟! ماذا عن الجحود وخيانه العشرة؟ والتخللي عن المسئولية؟ ماذا عن إنكار الجميل؟ ماذا عن الأنانية؟ أحقا يكون من تزوج من طفلة \”ماعملش حاجه تغضب ربنا\”؟! رغم الإيذاء الجسدي والاغتصاب النفسي.. رغم سحق البراءة وقتل الروح.. رغم قهر الطفولة.. رغم الغلظة ورغم القسوة؟! متى يغضب الإله إذا؟!