مرت الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشيخ يوسف البدري في صمت، بعد حياة صاخبة.. كان يزهو بلقب \”المحتسب\”، وقدرت أن رجلا حرمه \”القناع\” أن يكون ممثلا يحظى ببعض الشهرة سيواصل إشباع هذا النوع من الجوع التاريخي إلى شيء ما، بالبحث عن دور يضعه في دائرة الضوء، ولو استعار وجها آخر. ولكن الأقدار ادخرت له عقوبة قاسية، هو الوحيد الذي لم يدركها، إذ مات في صمت، في يوم أحد (23 فبراير 2014)، ولم يشعر برحيله أحد.
زرته مساء الثلاثاء 6 نوفمبر 2007. وباستثناء بعض الكتب وصحف ومجلات داخل ملفات قضايا ينوي رفعها، كان زمن البيت يوحي بالتوقف عند القرن السابع الميلادي، أو يجب أن يتوقف، والرجل لم يتوقف عن الخطابة في وجهي، وكنا نحن الاثنين وثالثنا كوب شاي، لم يتح لي أن أشربه كاملا، لأن علي الانتباه لزعيق متصل، وأشفقت على نفسي؛ فلا أستحق هذا المصير.
في منتصف التسعينيات، عصفت قضية حسبة، تقدم بها مواطن، بنصر حامد أبو زيد، وأخرجته من مصر، بعد حكم قضائي يفرقه عن زوجته. وبدلا من أن يدفع الخجل إلى نسف هذه الخرافة انتقلت الحسبة من الأفراد إلى النيابة. ومن مساخر ما بعد الثورة نص المادة 67 من دستور 2014 على أنه \”لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة\”. ردة على ثورة رفعت شعار الحرية.
في ذلك المساء، قال البدري إنه كتب الشعر صبيا، ونشر (ديوان البدريات)، ثم تخرج في كلية دار العلوم عام 1959، وأسس (فرقة يوسف البدري المسرحية)، وقدم في حواري حي السيدة زينب بالقاهرة عرضين من تأليفه.. (مشاعر خرساء) و(عقل في المزاد)، بهدف \”عرض الإسلام عرضا حديثا. تأكدت أن هذا الطريق مخالف للشرع، والجمهور خذلني لأنني لم أستعن بالنساء، كنت أحرم مشاركة النساء إطلاقا في التمثيل\”.
البدري قابل توفيق الدقن (1924 ـ 1988)، رمز الشر الجميل في السينما المصرية، وقال له: \”عايز ممثلات محجبات\”، فضحك الدقن ساخرا من فكرة إخفاء الجمال، ولم يهتم بالبحث عن ممثلات محجبات، فواصل البدري جهاده الفني، وبعد بروفة لإحدى المسرحيات على مسرح الجمهورية بالقاهرة \”خرجت وأنا أكفر بهذا الفن، وأنهيت علاقتي بالتمثيل وبالفرقة المسرحية\”.
تفاخر البدري بملاحقته المبدعين. لم ينطق كلمة \”المبدعين\”، واستنكر علي أن أصف أحدا بأنه \”مبدع\”، وخصوصا الشعراء ومنهم حلمي سالم. وكان البدري قد رفع دعوى يطلب فيها سحب حلمي جائزة الدولة التي نالها حلمي سالم في يوليو 2007، بحجة أن الدولة كافأته بها على مقاطع من قصيدة يقول إنها تسيء للذات الإلهية، ثم \”يأخذ 50 ألف جنيه من دافعي الضرائب لكي يسب ربهم\”، ورفع سبابته، ونظر إلى السماء. وقلت إنه يتبرأ مني أيضا، وأوضحت أن الترشح للجائزة يتم قبل الإعلان عنها بعامين، أما ديوان (الثناء على الضعف) الذي وردت به القصيدة فصدر مطلع 2007، ونشرت المقاطع التي يعترض عليها البدري في مجلة (إبداع) بعنوان (شرفة ليلى مراد)، وتم التحفظ على المجلة، فأعادت صحيفتا (الوفد) و(العربي) نشر القصيدة كاملة، من دون أن يثير ذلك أي اعتراض.
كان البدري ينطلق من يقين يعطيه حق محاكمة \”المتجاوزين\” في الفكر والإبداع. فتح ملفا وقال إنه يتبنى الآن عشر قضايا منظورة أمام القضاء: \”أنا أقف في وجه الباطل. حياتي كلها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. لست غريبا على الثقافة\”. هنا أدركت أن الرجل يريد أن ينال بهذا الاستعراض من الشهرة ما لم ينله بمشروع موهبة لم تحمله إلى الأضواء، وأنه أيضا يستعير قناعا آخر، لعله يشبه سلوك منتقبات يضعن في صفحاتهن على الفيسبوك صورا لفتيات على شاطئ، بجسد حر وشعر منطلق لا يخشى أن يجرحه هواء البحر. ونبهني شيطاني بوسواس، له بعض الوجاهة والمنطق، يخص شهوة المحبط غير المتحقق في الانتقام من طائفة لم يتمكن من الانتساب إليها، ولن يكلفه النيل منها إلا وقت يملأ به فراغه، في إعداد ملف يضم قصاصات وصفحات من كتب.
لم ينس البدري أن يذكرني بأنه طالب بمصادرة كتاب (البيان لما يشغل الأذهان) لمفتي مصر علي جمعة: \”وطالبت من عشر سنين بمصادرة كتب الهارب نصر حامد أبو زيد… كتابه (مفهوم النص) فيه كفر، طبع من دم المصريين.. كان يُعلِم الكفر والإلحاد\”. قلت إن الرجل غائب، فأسعفني البدري بالآية القرآنية: «وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون\”، ثم أتبع سببا: \”لم أحكم عليه بالكفر. أمرناه بالتوبة. ما كفرت أحدا. هو كافر بحكم المحكمة\”.
رأيت أن أريحه بما يوهمه بالطعن في غيره، فحدثته عن أعمال أدبية تتناول المسيحية، ومنها رواية (الرجل الذي مات) لديفيد هربرت لورنس، عن حول خروج المسيح من قبره، بعد أيام من الصلب، وبحثه عن الجانب الحسي الذي أهمله في حياته، وإقامته علاقة مع كاهنة معبد إيزيس. وقد ترجم الرواية رمسيس عوض، وصدرت عن دار مؤسسة رسمية، ولم يقل أحد إنها دفعت مسيحيا مصريا إلى الشك في دينه، واعتناق الإسلام أو الإلحاد.
لكن البدري قال إن المسلمين ليسوا مطالبين بتقليد الغرب في شطحاته: \”الإسلام لا يؤثر فيه شوية غلمان كفار. لا بد أن أدافع عن ربي وعن ديني\”.
لم يتأكد للبدري أنني على أي دين، لا يوحي اسمي بذلك. سألني عن أسماء أولادي، فقلت: \”سلمى\” و\”ملك\” ولهما أخ اسمه \”آدم\” على الرغم من أنه رضيع، وابتسمت لعله يدرك أنني أفهم مغزى السؤال وألاعبه، وأرفض أن أريحه ليطمئن قلبه. وظل قلقا حتى قاربت على الانصراف، وأظلنا أذان للمغرب من الجهات كلها، فقال فيما يشبه الأمر: \”اذهب للصلاة، ثم نكمل بعد ساعة\”. لم يكن هناك كلام لنكمله، كنت أريد معرفته عن قرب، وأحسب أنني عرفته. شكرته على الشاي، وهممت بتوديعه، فسألني: \”لماذا لا تصلي؟ ألست مسلما؟!\”.
ابتسمت وشددت على يده، فسألته: \”أنت تحاسبني؟\”، فسحب يده، وارتفع صوته، واتخذ هيئة نذير يخطب في كفار قريش: \”بل أنصحك\”.
وبعد الثورة انحسرت عنه الأضواء، صار للدين وكلاء آخرون، يرفضون أن يزاحمهم الحرس القديم، ولم تعد المزايدة تجدي في ظل حكم الإخوان، رحمههم الله ورحمه ورحمنا.