لا انكر حبي لعبد الحليم حافظ، فقد أفنيت ساعات لا نهائية من عمري وأنا اسمع كل ما غنى حليم، وخصوصا الأغاني الطويلة \”القصائد\”، مثل \”قارئة الفنجان\” و\”رسالة من تحت الماء\”.
ربما هو حب من الطفولة ورثته عن والدي، وهو من أشد المعجبين بحليم. ففي كل عام, و بمجرد أن يقترب شهر مارس من نهايته، يبدأ أبي في مراسم الاحتفال بذكرى عبد الحليم, فيملأ البيت بمجلات وكتب عن عبد الحليم وتصدح أغانيه صباحا وليلا, حتى إننا أطلقنا عليه موسم عبد الحليم!
كبرت وكبر معي حب عبد الحليم، فلم اترك كتابا عنه إلا لو قرأته، ولم اترك أغنية إلا وحفظتها عن ظهر قلب، ولم اترك فيلما إلا وشاهدته عده مرات لدرجة أن بعض الأفلام أستطيع \”تسميع\” الحوار كاملا مثل فيلم \”شارع الحب\”.
لم يتوقف حبي لحليم عند هذا الحد, فعندما ذهبت لزيارة لندن لأول مرة في 2009, كان من ضمن أهم المعالم التي حرصت على زيارتها، هي المستشفى التي توفى فيها حليم وهي مستشفى كينجز كوليج.
وتشاء الأقدار أن تمر السنين وتولد بنتي في نفس المستشفى! ربما لو كانت ولدا لفكرت في تسميتها \”حليم\”.
واعترف أيضا أنه منذ حوالي 5 سنوات، ذهبت لمنزل حليم في الزمالك يوم ذكراه، ووضعت الورود على سريره الشهير ذي البقعة الداكنة مكان ما كان يسند رأسه على مدار سنين مرضه.
بالرغم من أن وفاة حليم المبكرة شيء حزين, إلا أنني سعيد أنه لم يعش حتى أراه يطبل لمبارك أو للمجلس العسكري أو للسيسي, لأنه وبكل تأكيد كان حيطبّل وش.
بالرغم من إدراكي الكامل لأنه من هذا النوع من الفنانين الذين لا يتأخرون في إنتاج أعمال فنية لدعم أي قرار – مهما كان – يصدره رئيس الدولة, حتى لو قرار غلط, إلا أنني سعيد لأني لم أشاهد هذا المشهد بعيني بعد سنين من الحب، فللأسف لو كان عبد الحليم عايش كان حيبقى بيتعكز على عبد الرحمن الأبنودي وهما رايحين يتصوروا مع السيسي بعد ما صرف لهم فلوس علاج أو حاجة كده.. فعلا فعلا الحمد لله إنه مات قبل ما أشوف المشهد ده.
عبد الحليم ظهر في وقت كانت النغمة السائدة فيه هي التطبيل, وأنا هنا لا احاول أن أدافع عنه أو ابرر له, لأنه فعلا كان مؤيدا لنظام عبد الناصر وشارك في جريمة النظام – وقتها – في خداع الشعب حتى استيقظوا على نكسة, ويذكر له برضه أغاني النكسة زي \”عدى النهار\”، واللي أنا بعتبرها من أصدق الأغاني في تاريخ حليم، وممكن تشفع له عن فقرة التطبيل اللي عملها قبل النكسة.
بس الفرق بين مصر وقتها ومصر الآن، هو إن بعد ثورة يناير هناك تيار سياسي وفكري واضح من المؤمنين بمبادئ الثورة ومطالبها، ولهم موقف ثابت ضد أي نظام حاكم، بداية بمبارك مروراً بالمجلس العسكري وانتهاءا بمرسي ثم السيسي.
يعني حاليا لو فيه فنان يحترم نفسه، فهناك مواقف محترمة ممكن تتخذها، وهناك الكثير من الفنانين حاليا لهم مواقف محترمة بدون الاضطرار للتطبيل. بينما أيام عبد الحليم, كانت الاختيارات في التيارات المعارضة محدودة ما بين التيار الشيوعي أو الإسلامي.
كلامي هنا ليس دفاعا عن حليم بقدر ما هو إدانة للفنانين الحاليين ذوي القامات الفنية العالية الذين قرروا أن يتورطوا مع النظام، ليس فقط بالفن، لكن بمواقف محددة, مثلا كما شاهدنا محمد منير وهو يبتذل نفسه ليظهر وهو يطبل للنظام دون حياء!
طبعا أنا ما عنديش حاجة أقولها بعد اللي قالته دعاء سلطان في مقالها في موضوع منير ده.. يمكنكم قراءة مقال دعاء سلطان هنا
نقطة أخرى مهمة, طبعا لو قارننا بين أغاني عبد الحليم المؤيدة للنظام وقتها، بالأغاني المؤيدة للنظام حاليا، سنجد أن هناك فرقا شاسعا في المستوى الفني في اللحن والكلمات والأداء.
ولأن فن حليم كان فنا له قيمة، كنا سنصدم فيه لو كان عاش وطبّل.. نفس الصدمة اللي خدناها في الأبنودي بعد سنين طويلة من الفن والأشعار اللي تربينا عليها، والراجل يبتذل نفسه على آخر أيامه، فالتجربة علمتنا أن تاريخ الأبنودي لم يشفع له, وتاريخ منير وفنه لم يمنعونا من شعور الامتعاض وهو ينحني ليقبل محلب أو يتأبط ذراع توفيق عكاشة، ويثني على أحمد موسى!
يعني لو حليم كان عمل نفس الموقف، كنت سأصبح مضطر آسفا إني أتخنق منه.. شكرا يا بلهارسيا!
أظن أن الموضوع أكبر من مجرد فنان واحد.. فكرة فصل الفنان عن مواقفه السياسية من أهم المواضيع اللي ظهرت بعد الثورة، فمجموعة تؤكد أن الفنان لا ينفصل عن ما يؤمن به, وآخرين يقولون إن فن الفنان شيء وتوجهه السياسي شيء آخر.
أنا شايف إن صعب فعلا فصل الفن عن الفنان، وما يؤمن به، فالفنان الناجح الحقيقي بيكون باكيدج على بعض.. ما ينفعش تاخد منها حتة وتترك الباقي. حليم كان فنانا حقيقيا، وكان بيغني بإحساس حقيقي ومستحيل تفصل مواقفه الشخصية عن فنه.
الخلاصة.. إن موت الفنانين والأدباء الذين نحبهم قبل موجة الرخص والابتذال في التطبيل، هي التي أنقذتنا من أن نخسر جزءا كبيرا من شخصيتنا التي بنيت على بعض من أعمالهم الفنية.
أنا سعيد إني حقدر استمر في سماع أغاني حليم من غير أي إحساس بالامتعاض، أو حاقدر أقرا روايات نجيب محفوظ وغيرهم من الناس اللي القدر رحمهم من لحظة الرخص والابتذال في نهاية عمرهم.
اللهم أحسن خاتمتنا جميعا.
أسيبكم بقى واروح اسمع \”قارئة الفنجان\”.. مفقود مفقود يا ولدي.