د. طلال فيصل يكتب: التجربة الألمانية (3).. عن انتحار الطيار الألماني

يميل الفتى نرجس على صفحة الماء، وينظر مليا، هل رأيتنّ يا بنات الحور أحدا في جمالي؟ ولا ينتظر الجواب، فالسؤال لا ينتهي بعلامة استفهام، ولكنه محض توكيد لحقيقة مستقرة في ذهن صاحبه. وتميل أعناق بنات الحور بغتة، حيث يدوي صوت انفجار هائل. لا يبدو على نرجس أنه منتبه، أو أنه قد سمع أصلا صوت ذلك الانفجار الهائل؛ إلا أن الوجوم يسود المشهد، وتتعالى التعليقات عن فتى ألماني وسيم، قرر في لحظة غامضة أن يأخذ طائرة ركاب ويرتطم بها في حافة جبل!

أي شىء جرى في عقله؟ أي فكرة سيطرت عليه؟ وحين تشرق شمس النهار يقول الاستشاري بالمستشفى التي اعمل بها:

\”عليك أنت إذن أن تكشف هذا اللغز؟\”

\”ولكنني طبيبٌ نفسي ولست محققا جنائيا\”

فيبتسم، \”هذه محض مترادفات\”

اعمل الآن في قسم الاكتئاب، قرابة الثلاثين مريضا من كافة أشكال الاكتئاب المختلفة، وإذا كانت الأعراض عند البشر واحدة، فإن التعبير عنها والتفاعل معها يختلف باختلاف الثقافة؛ تلك المريضة المصرية التي أجبروها على الزواج من رجل كبير في السن، فأصيبت بصدمة نفسية وفقدت القدرة على الحركة، بنظرتها الثقيلة، وبطء لسانها وحركتها المتثاقلة الكابية، لا تبدو مثل ذلك الطيار الألماني الوسيم – موضوع النزاع – في المحاضرة التي يفترض أن نتلقاها.

يكون من المهم أن تفرق في الطب النفسي بين الاكتئاب واضطراب أو كرب ما بعد الصدمة Psttraumatisch Belastung Stoerung.. هل الأعراض أصيلة عند صاحبها، أم أنها رد فعل لموقف معين أو صدمة محددة؟ هل هي من فترة طويلة، تزيد عن أربعة أسابيع أم أقل، وما هي درجتها، نوبة اكتئاب جسيمة أم متوسطة أم ضعيفة. كل هذا يمكن قياسه وتشخيصه.

نستفسر دائما عن الأفكار الانتحارية لدى المريض، وخاف من – أو على – المريض الذي يصل به اكتئابه لضلالات أو هلاوس، تكون متعلقة بالشعور الذنب أو العدمية! كل هذا معروف، لكن تستوقفني عبارة ترد في فصل الاضطرابات الشخصية:

\”ينبغي الحذر من المريض النرجسي الذي يصاب باكتئاب؛ إن مدى الأذى الذي يمكن أن يلحقه بنفسه أو بالآخرين غير محدود\”

منطقي.. المريض النرجسي الذي لا يطاق، الذي يحتاج علاجا قد يمتدّ لسنوات، ولو تجرأت وانتقدته أو قيّمت تصرفاته أثناء الجلسة ينهار فورا كل ما بنيته في علاجه.. المريض النرجسي الذي إن حدثته عن أي شىء – حرفيا أي شىء- يلف ويدور ويرجع بك مرة ثانية لنقطة هو محورها.. حياته – حسبما تكتب الكتب الألمانية- Ich und nu rich \”أنا ولا شىء غير أنا\”.

نرجس الذي دوّى الانفجار فوق رأسه وهو لا يزال يسأل بنات الحور: \”هل رأيتنّ أحدا في جمالي؟\” مكتفٍ بذاته الجميلة في نظره، وهو متميز دائما في عمله – بل ويميل للكمال- فلا يصح أن يكون هو هو، ويخطئ، وغالبا – من واقع الخبرة والمشاهدة – لا يكون مرتبطا، وغالبا ما يمنعه كبرُ نفسه من شكوى الشعور بالوحدة، يهز رأسه متعجرفا

\”أنا لا اصلح للعلاقات المستقرة.. أفضل الحريّة على أي قيد\”

اللطيف أن حياته قد تستمر سنوات بلا شكوى حقيقية، وربما دون الذهاب لطبيب نفسي، قد يعاني من نوبات اكتئاب – كما هو مرجح في حالة صاحبنا الطيار – من آن لآخر وتكون نوبة اكتئابه غالبا غير خطيرة، فنرجسيته تُمدّه بقوة نفسية تحميه لفترة غير قصيرة.

لكن إن حدثت له صدمة ما، فحاذر!

إن غضبته لا حدود لها.. مشكلة في العمل قد تؤدي لأن يقتل المدير والزملاء ويفجر المبنى كله.. لسان حاله: \”بقى أنا على آخر الزمن يتعمل فيا كده؟! والله ورخصت يا تفاح\”

الأمثلة لا تحصى عن مرضى قتلوا أسرة بكاملها عقب مشكلة عاطفية.

نبتسم جميعا في المحاضرة لطرافة الملاحظة، ترن ضحكة هنا أو هناك، يضرب أحدهم مثلا مؤكدا عن مريض قابله، بينما نرجس لا يزال يحدق في صورته مفتتنا لامع العينين.

بالله عليكن يا بنات الحور، إن سألكنّ نرجس عن صورته، فقولوا له إنه فاتن وجميل، مش ناقصين مصايب.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top