وحيد الطويلة يكتب: أدر إصبعك بعيداً

أتعس لحظة في الثورة التونسية كانت ليلة الخطاب الأخير لبن علي، فرغت الشوارع منذ الخامسة مساء مع أن حظر التجول يمتد حتى السابعة، هرع الناس لبيوتهم في انتظار الكلمة الأخيرة، لم يكن أحد يعرف اتجاه الريح ولا إلى أي جهة ستصعد النوة؟ هل يخمدها بن علي كالعادة أم أن العاصفة سوف تضرب العاصمة التي بدت كامرأة جامدة الملامح، شحيحة في عواطفها، لكنها قد تقلب الطاولة.

كانت الثورة قد وفدت إلى العاصمة خجولة في الأيام الأخيرة، مضى سبع وعشرون يوماً منذ اندلعت ولم تصل إلى هنا إلا مؤخراً، منذ أيام قليلة فقط كمحطة بدت أخيرة، لا تستغرب فالثورة هناك اشتعلت في البعيد، في سيدي بوزيد ثم انتقلت إلى قفصة وتاله، وحين أطلق أعوان الأمن النار على جنازة أحد الشهداء استيقظت كرامة مدينة صفاقس، حدث ما أوجع المدينة الكبيرة في المنتصف إلى الجنوب، كان مشهد إطلاق النار على مشيعي الجنازة هو الشرارة التي انتقلت من جسد بوعزيزي لجسد النظام ، كان انحياز صفاقس للثورة هو المؤشر الرئيسي على بدء انحياز الشعب كله نحو الثورة، وبعدها لم يكن أمام العاصمة سوى أن ترفع راياتها.

بدت الشوارع وحيدة وأنا وحيد، ما زال أمامي ساعتان، ماذا أفعل؟ هل أعود للبيت أجر وحدتي أم أعود للمقهى الذي سأنام به حتى صباح اليوم التالي؟ لا يوجد مقهى واحد مفتوح، الكل أقفل أبوابه والعمال طردوا الزبائن بلطف تارة وبعنف تارة أخرى حتى يتمكنوا من العودة لبيوتهم قبل الموعد الصارم، وسائقو التاكسي ينهبون الأرض بسياراتهم لا يتوقفون لأحد إلا نادراً، وقد يرفضون، في الغالب يرفضون مع أن هذه ليست عادتهم، الظرف استثنائي وأعوان الأمن مرشوقون كأعمدة الكهرباء في الشوارع، ولا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد دقيقة، قلوب الناس تغلي في شارع الحبيب بورقيبة منذ الصباح، تغلبوا على خوفهم بل وتمترسوا بشجاعة لأول مرة أمام وزارة الداخلية التي تنتصب كالحة في مدخل الشارع، لكنهم حين دقت الرابعة بدأوا في لملمة هتافاتهم والعودة لبيوتهم في انتظار الخطاب الثالث للهر الذي خطب مرتين من قبل.

وأنا غريب، أنا الآن غريب في هذي المدينة، عشت فيها سنوات لم أشعر مرة بالغربة، كانت الوحدة تناوشني من آن لآخر، حنين لأسرتي في بلد بعيد، صوت طفلتيَ يرن في أذني، لكنني محاط بأصدقاء ومتدفىء بالمحبة، لكن حين حرق بوعزيزي نفسه تم إعلان حظر التجول واختفى الجميع في بيوتهم ، وجدت نفسي وحيداً وقفزت الوحدة في حجري.

كنت قد ركنت سيارتي منذ أن دخلت شرارة الثورة إلى العاصمة، سيارتي بأرقام دبلوماسية، والأنباء منذ أيام عن قتل الناس بسيارات لها نفس اللوحات، وأصبحت السيارت من هذا النوع عرضة للتفتيش وربما للانتقام، أتمشى على ساقيَ من أول الشارع أحاول أن أقتل الوقت، استوقفني أكثر من خمس جنود بأسئلة لا تنتهي كأني أقتل الوقت بالغربة أو أواجهها، أو انتحر بمواجهة البوليس بطريقة خرقاء في هذه اللحظة الخرقاء، حدثت مخاشنة بيني وبين أحدهم لما رآني متباطئاً بارداً، راح يتوعد ويحرك يده قرب وجهي، قلت له: أدر إصبعك بعيداً عن عيني، يبدو أنني أثرت حفيظته أكثر إذ أن مطرباً من جماعة الراب كان قد أطلق أغنية بنفس العنوان بعد الخطاب الأول لزين العابدين بن علي، حين دق الأخير الطاولة بيده ولوح باصبعه – متوعداً – في عين الجميع، كان المطرب قد اختفى من على الشاشة بعد الأغنية بيوم وأنا يجب أن اختفي الآن، وأوامر عنيفة بالعدو حتى منزلي حتى قادتني قدماي إلى مقهى صديقي.

حين وصلت كان هناك عشرة زبائن من أصدقائنا يجلسون حول التليفزيون يدخنون ويشربون القهوة والشاي والأخضر، بيوتهم فوق المقهى أو بجانبه، ومن الممكن أن ييبتوا معنا إن تعذر خروجهم، كنت قد نمت طيلة الأيام السبعة والعشرين الماضية مع صاحب المقهى منذ اندلاع أول شرارة، حرق بوعزيزي نفسه وصاحب المقهى تعارك مع زوجته وأنا شعرت بالغربة فنمنا جميعا في المقهى نواسي حالنا.

رحنا ندخن في صمت والانتظار على الوجوه يكاد يأكل الملامح، في مدينة تبدو الآن ميتة كأنها مقبرة كبيرة لا تسمع صوتاً واحداً في الشارع إلا إذا مرقت سيارة مسرعة للجيش، ننظر لبعضنا نظرات ناشفة، هم خائفون وأنا خائف، هم خائفون من المجهول، وجدوا نفسهم مرة واحدة والثورة تجري تحت أقدامهم، وأنا خائف أن تنتكس اللعبة كلها ونعود أدراجنا لأول السطر، كنت قد حدست أن ما سيحدث بعد الخطاب هو الذي سيحدد نجاح الثورة من عدمه.

أخيراً ظهر الهر على الشاشة مذعوراً وقال قولته المشهورة: وأنا فهمتكم، أنا فهمتكم.

كانوا خائفين من الخروج، فخرجت قبلهم في اتجاه الميدان القريب، رأيتهم بعد برهة خلفي، كان الناس قد وصلوا قبل وصولنا، راحت أبواق السيارات تنبعث من الشوارع القريبة والبعيدة، ونسوة يرقصن في قلب الميدان وشباب يغني أغاني شعبية والتحية للسيد الرئيس، وقع ما خفت منه، ظهر الطابورالخامس وتبعه السادس والسابع، وراحت جمل من عينة : السيد الرئيس خفض سعر المكرونة والزيت والكسكس، وكل واحد سيستلم وظيفته هذا الأسبوع.

وقع المحظور، وظهرت الدولة العميقة باكراً وستموت الثورة تحت أقدام المكرونة والزيت.

كان رهاني على شيء واحد: إن خرج التوانسة غداً للتظاهر مرة أخرى، فالثورة ستنتصر، وإن قنعوا كما أرى وصدقوا كلاب الدولة التي خرجت في هذا الميدان ولابد أنها خرجت في كل الميادين الأخرى فعليه العوض.

رحت اقترب من الأطراف بابتسامة كاذبة، بقلب متشائم أو بقلب مرعوب من ضياع الفرصة، لكنني غريب ليس لي حق التعليق ولكن لي حق الفرح بالكذب.

كانت سيدة تعقد يديها أمام جسدها بوجه محايد ومعها شابة يبدو أنها ابنتها، قلت: \”إيه الأخبار، الناس فرحانة\”.

ردت: أنت سوري؟

قلت: نعم.

ما رأيك أنت؟

بوغت لكنني ضحكت وقلت: فهمتكم.

اقتربت من وجهي وقالت بحزم: بربي ما هو قاعد فيها.. لا هو ولا كلابه، إذهب أنت الآن حتى لا يأخذوك.

نظرت في وجهها طويلا، ودعتني بابتسامة.

عندما كنت أستدير كانت ابنتها تغني بصوت نصف مسموع: أدر إصبعك بعيداً عن أعيننا.

لحظتها أيقنت أن الثورة ستنجح.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top