إبراهيم عبد الفتاح يكتب: الكل × واحد "معكوسة"

سيمكننا – لاحقا- أن نعتمد رائعة أحمد عدوية \”زحمة يا دنيا زحمة\” كأغنية وطنية بامتياز، لما أحدثته من صرخة مدوية حين إطلاقها، فقد لفتت انتباهنا إلى كم الصخب السمعي والبصري الذي يشوه الروح والعقل وينعكس على الأداء السلوكي والإنتاجي وكافة العلاقات الفردية والاجتماعية.

قبيل طرحها بسنوات وحتى الآن، وغيرها من الأغاني الشعبية التي تناولت الفوارق الطبقية أو الضياع والهجرة، بل وحتى تلك التي تناولت الإدمان وأصدقاء السوء، وسيتعين علينا حينها أن نعيد النظر فيما أطلق عليه \”أغنية وطنية\”، وذلك الزخم اليومي من التباري في إنتاج أغنيات ركيكة ومكرورة تزيف الوعي وتكرس للتواكل على حضارة لم نسهم فيها بحجر، بل قصرنا في حقها حتى ضربها الإهمال وعوامل التعرية والصرف الصحي، ناهيك عن النهب المستمر بنجاح باهر، ولا عجب أن \”النيل\”، وهو القاسم المشترك بين معظم الأغنيات، صار ملوثا ومريضا ومغتصبا، ناهيك عن كونه بات مهددا من دولة المنبع، وأظنني لمحته غير مرة وهو يحاول التسلل في الليل والهرب هو الآخر ولو في مركب غير شرعية.

واللافت للنظر أن معظم هذه الأغنيات تم إنتاجه بإشراف وانتقاء وتمويل جهات سيادية وهيئات ومؤسسات حكومية، ونستطيع بمراجعة بسيطة أن نكتشف كيف كرست هذه الأغنيات لتملق وتمجيد الفرد على حساب المجموع، وكيف ضللت العامة حين اعتبرت أن مردود كل إنجاز إلى حاكم بعينه، مغيبة تماما عرق الكادحين الذي تشربت به الأرض والجدران فنالت من عزيمتهم بالتراكم، ونجحت في طردهم إلى بلدان يحيق بها الخطر من كل جانب بحثا عن الرزق، ليعود بعضهم جثثا قتلها الحقد مرة والإرهاب مرات.

تلك الأغاني المجانية والفارغة التي تغنت بنشأة الزعيم ومسقط رأسه وهيبته، وأفرطت في التغزل والثناء على دوره كزعيم وقائد، وكيف تفضل علينا بطلعته الجوية \”مثلا\” حتى بدا الأمر وكأننا دفعناه دفعا لقبول مهنة لم تكن له فيها مشيئة، وألبسناه سترة لم يكن ليطيقها لولا ورطناه في ارتدائها، فصار الواجب منحة والطبيعي كرامة واستثناءا من فخامته. والمدهش أن بعض الأجهزة عملت على إنتاج أغنيات تخص مناسبات تاريخية وعظيمة، أسندت صنعها إلى من لا يمتلك مرجعية تغنيه عن التورط في مخالفات تاريخية جسيمة.

لقد امتلأ الوطن بأناشيد وأغان تقارب تعداد سكانه، لكنها لم تمنع جدارا واحدا من السقوط، وحين خرج الناس إلى الميادين لم يجدوا جملة واحدة من كل هذا الزخم، فأسعفهم وعيهم الفطري بأغنيات تم اعتقالها والتحفظ عليها لعقود طويلة.

واستنهضوا سيد درويش وبديع خيري وبيرم التونسي والنديم والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ونجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد ومحمد نوح وابراهيم رضوان وحداد وجاهين وبليغ حمدي وعبد الرحيم منصور ونبيلة قنديل وعلي إسماعيل وشادية وابراهيم رجب، وغيرهم من الخلصاء الذين لم تكلفهم جهة بالغناء للوطن، ولم تدفع لهم مؤسسة أجرا، نظير التعبير عن الانتماء، عوضا عن ذلك تم محاربتهم ومحاصرتهم وأحيانا اعتقالهم، وكأنهم خرجوا على القانون حين كتبوا ولحنوا وغنوا بأرواحهم ودمائهم غناءا بمقدوره أن يوحد هذا الشعب الكبير في جملة واحدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top