في نهاية مايو 1991 كنت امتحن مادة تاريخ مصر المعاصر التي درسها لي المؤرخ الفاصل استاذي الجليل رءوف عباس في آداب القاهرة، ولا انسى أبدا السؤال المربك الذي كان من بين أسئلة الامتحان، وكان يقول: \”إن ما جرى في مارس 1919 ظل حدثا تاريخيا استثنائيا وعليه هل تعتبره عزيزي الطالب \”ثورة أم انتفاضة، أم هبة جماهيرية؟
ما جعلني اتذكر هذا السؤال الرهيب الآن يتعلق ببساطة بطرق تقييم ثورة 25 يناير على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي أغلب مقالات الرأي التي تنشرها الصحف وتطاردنا في برامج \”التوك شو\”، حيث تعمدت الغالبية الوصول إلى يقين قاطع بفشل ثورة يناير.. كده خبط لزق.
وأنا لا اكتب هنا متفائلا بنتائجها لا سمح الله، لكن داعيا لتأمل المفارقة التي يمكن توقعها من مقارنة حالة التشكك التي أرداها الأستاذ العظيم من السؤال الذي وجهه لطلابه بغرض اكتشاف مهاراتهم في التعاطي مع حدث تاريخي، واليقين الذي وصلنا إليه في التعامل مع حدث آخر تابعناه جميعا وشاركنا فيه، فبينما ننظر الآن بإعجاب بالغ إلى نتائج ما جرى في مارس 1919 كثورة عظيمة، ننظر بتشكك لما جرى في يناير 2011، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة خاصة، وإن حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي نشهدها حاليا لا تختلف كثيرا عما عاشه المجتمع المصري عقب مارس 1919، ويكفي فقط أن تتابع مختلف الانقسامات والانشقاقات التي عانى منها الوفد المصري، حيث نظرت الجماهير الغفيرة بعد شهور قليلة من مارس 1919 إلى أسماء مثل إسماعيل صدقي وعبد الخالق ثروت، ومحمود فهمي النقراشي – كانوا في الصفوف الأولى من الثورة – كعملاء ومنشقين وخونة، وظلت أسماء أخرى مثل أحمد لطفي السيد الذي تحدث طويلا عما اسماه \”أصحاب المصالح الحقيقية\” على موقفها الراغب في تبني الحلول الإصلاحية وليست الثورية رغم أنف الجماهير التي اتهمته بأنه من بين من \”باعوا الثورة\”.
وبطبيعة الحال لا نزال ننظر الآن إلى لطفي السيد باعجاب كبير، ولايزال محتفظا بلقبه كأستاذ للجيل، وبلافتة شارع يحمل اسمه، والأكثر إثارة أن سعد زغلول نفسه اتهم ممن كانوا على يسار مواقفه في السلطة، بأنه يميني معاد لحقوق الجماهير في الثورة، وظل موقفه من تأسيس أول حزب شيوعي في مصر أساسا لموقف حافظت عليه الأنظمة التي جاءت بعده يقضي بتجريم الالتحاق بأي حزب شيوعي.
لذلك لا تندهش وأنت تعرف أن مؤرخين كبار قد اعتبروا أن زغلول فقد حسه الثوري عندما نال حق تشكيل الحكومة بعد نجاح الوفد في أول انتخابات جرت في ظل دستور 1923 الذي اعتبره زغلول دستورا أعدته لجنة الاشقياء، بل إن الزعيم الخالد نفسه عبر في أكثر من مناسبه عن شعوره بالإحباط العام مما عاشه.
وبعد عزيزي القارىء، ليس هذا المقال حصة في التاريخ، و لا هو أيضا جلسة للوعظ والإرشاد، ولكنه دعوة للتأمل والنظر، وربما كانت مناشدة لوحدة إطلاق الأحكام للتوقف قليلا عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، فالثورة مسار في التاريخ، وليست تذكرة لعرض سينمائي يمكن أن تقول رأيك فيه مع نهاية الفاصل الأول، وأنت تأكل الفيشار في الاستراحة.
ومطلوب كذلك ونحن على أبواب الفاشية، إما أن نتحمل نتائجها الكارثية ونستعد لدفع الأثمان التي تدفع عادة مع تحولات تاريخية كبرى، أو نشتري دماغنا ونبدأ البحث عن طريقة لممارسة الاختلاف خالية من وحدة منح تراخيص الوطنية وصكوك الغفران.