زينب خير تكتب: كطفلة بلهاء في انتظار الحلقة الأخيرة من "زينب والعرش"

 

في صبيحة أحد أيام الشهر الماضي، طالعتنا نشرات الأخبار عن أخبار الضربات الجوية المصرية لليبيا، وأمتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن الحرب، وبالرغم من مرور نحو 34 عاما على ما سأرويه هنا من أحداث.. قفز أمامي شريط ذكريات، ولم يمر أمامي فقط، بل رافقتني أحداثه لعدة أيام كأني اعيشها الآن.

كتب علي صفحتي الشخصية في فيسبوك:

\”في الحرب.. يتغير كل شي.. صوت الطلقات يصبح بديلا عن صوت العصافير وعن أناشيد الصغار الصباحية في المدارس.. ستختفي رائحة الورود والبخور وحتي عوادم السيارات وتعبيء الهواء رائحة البارود، ويتدفأ البشر في البيوت بالحرارة التي تملأ قلوبهم من فرط الخوف.. في الحرب، يتغير كل شيء.. اللهم أنت السلام ومنك السلام.. اللهم لا تكتبها علينا مرتين\”.

ثلاثة مشاهد حدثت عبر ستة أشهر، عشت فيها في بغداد بداية الحرب العراقية الإيرانية، كانت الغارات تصل فيها لعمق بغداد، حيث كنا نسكن. غادرنا القاهرة في صيف 1980، صبيحة اليوم الذي سوف تعرض فيه الحلقة الأخيرة من مسلسل \”زينب والعرش\”، وكان كل همي أن نصل لمكان إقامتنا الجديد قبل موعد إذاعة الحلقة الأخيرة من مسلسل \”زينب والعرش\”، لم اكن اعلم – حينها – أن وجود جهاز تليفزيون لا يعني إذاعة نفس البرامج والمسلسلات، وأني – صباح اليوم التالي – لن أشاهد برنامج \”ماما نجوى\”، ولن أسمع برنامج \”أبلة فضيلة\” في الإذاعة، وأنه بدلا منهم، سوف تحتل ذاكرة طفولتي مشاهد أخرى، يختلط فيها اللعب برائحة البارود وصوت صافرات الإنذار.

مشهد (1):

كنت في الصف الأول الابتدائي عندما انطلقت فجأة صافرات الإنذار، وفي محاولة يائسة للمدرسات أن تهديء كل منهن روع تلاميذ فصلها، حتى يكون عبور الجميع إلى المخبأ بنظام تحاشيا للتدافع، وأثناء مروري وسط طابور طويل من التلاميذ والتلميذات في ساحة المدرسة، رأيت \”الأرجوحة\” التي لم استطع أن العب بها ولا مرة منذ بدء الدراسة، لأن الطلبة الأكبر يحتلونها طوال فترة الفسحة، تسللت من الطابور، وذهبت لأتأرجح.

بعد نحو خمس دقائق، عادت إحدى المدرسات، لتتأكد أن الجميع قد مروا إلى الملجأ، فوجدتني العب وحيدة على الأرجوحة!

توجهت نحوي، واخذت في الصياح، وحملتني لتنزلني من على الأرجوحة، فإذ بطائرة تمر فوق رؤوسنا – تقريبا – وتخترق حاجز الصوت، فلم اعد اسمع ما تقول، فجلست القرفصاء، وهي مازالت تحملني بعد مرور الطائرة، وتوجهت بي إلى الملجأ، وهي تمسك بيدي دون أن تنطق إحدانا بكلمة.

مشهد (2):

رحل أغلب سكان الحي.. عادوا من حيث جاءوا من مدنهم المختلفة حتي تخف وتيرة الحرب، ولم يعد بالحي إلا عدد قليل من العائلات المجبورين على البقاء، منهم ثلاث أسر مصرية، قررت أسرة منهم أن تقيم \”سبوع\” ليحتفوا بمولودهم الجديد، وقبل بدء الاحتفال مباشرةن وقبل أن نشعل الشموع، انطلقت صافرة الإنذار، فجلسنا ننتظر صافرة انتهاء الغارة. تكرر المشهد مرتين، وفي المرة الثالثة كان الظلام قد حل بشكل كامل، فقالت إحدى النساء: \”هو الشمع فايدته إيه؟ ولعوا الشمع وغنوا يا عيال\”.

فأنطلقنا بالغناء، واطلقت النساء الزغاريد، ولم ننتبه – هذه المرة – متى انطلقت صافرة انتهاء الغارة.

مشهد (3):

كنا نصعد عصر كل يوم نحن وأبناء الجيران للعب فوق سطح المنزل، قبل بدء اللعب، كنا نجمع \”الشظايا\” المتناثرة على أرضية السطح، ونظعها في طبق بلاستيكي كبير \”اطباق الغسيل القديمة\”، ونلقيها في صندوق القمامة، وأحيانا ناخذ بعض القطع الصغيرة لنلعب بها كمغناطيس لجذب الأشياء الحديدية مثل الأبر والمسامير، وفي أحد الأيام أخبرنا أهلنا بأننا لن نستطيع اللعب مجددا فوق السطح، لأن فرقة \”دفاع مدني\” نصبت مدفعا مضادا للطائرات فوق السطح، وأن عساكر هذه الفرقة سوف يقيمون لبضعة أسابيع فوق السطح!

في أحد الأيام، قامت إحدى جاراتنا، وكانت سيدة كبيرة تسمى \”العلوية\” بعمل صينية من الشاي للعساكر، فانتهزنا الفرصة، وصعدنا معها أنا وأحفادها، وأثناء حديثها مع العساكر، أخذنا في اللعب والجري، وإذ بصافرة الإنذار تنطلق مجددا.

تجري \”العلوية\” لتجمعنا للنزول إلى المخبأ مرة أخزى.. اهتزت جدران المنزل بعنف لم نشهده قبل ذلك، حيث أطلقت فرقة الدفاع المدني طلقات من المدفع على طائرة اقتربت من المنزل.

بعد صافرة نهاية الغارة، نظرنا إلى السماء، حيث كان أثر الدخان ما زال عالقا، وحطام جناح الطائرة سقط في شارع مجاور، وظلت رائحة البارود عالقة في أنفي، ولم اشاهد الحلقة الأخيرة من \”زينب والعرش\” حتى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top