دينا ماهر تكتب: ثم تتخلى دون أن تقصد

\"\"

هل تذكر أول لعبة تَلَفت في صغرك، وظننت وقتها أنها ملت اللعب معك؟ هل تذكر أول حبيب فارقك وكيف قضيت ليالٍ طويلة في البحلقة في السقف لا يتردد في ذهنك سوى السؤال الأزلي لماذا تركني؟ هل تذكر أول حلم لم تحققه وطاردك طوال النهار في أفكارك، وطوال الليل في أحلامك؟
ربما لم يكن الأمر بتلك القسوة التي صورتها، ربما أنا هشة وكنت أظن وقتها أن العالم قد انتهى لأن شخصًا تركني في منتصف الطريق، لكن كما يقول المثل \”دائمًا هناك أول مرة\”. أول مرة هي الأقوى شعوريًا على الإطلاق مقارنة بكل ما يليها، فأول مرة تحب ليست كثاني أو ثالث مرة. وأول مرة يتخلى عنك شيء أو شخص هي الأصعب، ففي المرات التالية تغضب أقل وتحزن أقل، حتى تجد نفسك لا تشعر سوى شعور باهت خفيف لا يكاد يرى.
ومع مرور الوقت تجد نفسك تتخلى عن الأشياء قبل أن تتخلى هي عنك، ميكانيزم دفاعي معروف لدى كل من يملك قلبًا هشًا لا يحتمل الفراق، وكأنك المقوقس تقتل نفسك بسيفك قبل أن يقتلك عمرو بن العاص. التخلي أيضًا له أول مرة وهي الأصعب على الإطلاق. بعدها تجد نفسك تتخلى عن الأشياء بسهولة، ثم تتخلى دون أن تقصد.
هذا لا يعني أنك لا تقدر قيمة ما ضاع منك، ولكن ربما أنت لا تحزن، لأنك خفضت سقف التوقعات. ربما اعتدت الأمر. ربما زهدت الحياة بأكملها، فبرد قلبك، وخفتت رغبتك، وقل حب التملك لديك. الإنسان لديه رغبة قوية في التملك حتى وإن ادعى العكس، الإنسان كائن متملك، نرجسي، اعتقد لفترة طويلة أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، لأن ذلك يعني له الكثير، فالشمس هي من تتعب من أجل إسعاده. لكنه تخلى عن هذه الفكرة، واقتنع ولو ظاهريًا أنه نقطة في بحر كبير، واقتنع أن العالم لم يخلق له فقط، فبحسابات الكون فالإنسان لا شيء، وحشرة كالصرصار تستطيع أن تواجه أزمات لا يقوى عليها الإنسان.
لا أعرف الكثير عن حياة الصراصير لكنني أكاد أجزم أنه لا وجود لصرصار مصاب بكل تلك الأمراض التي نعاني منها نحن البشر. فعلى حد علمي لم يمت صرصار تخلت وليفته عنه، ولم يبكي طوال الليل لوظيفة لم يحصل عليها. ربما هنا تكمن قوة الصرصار، أنه يخزن كل قوته في البقاء حيًا، في حين أن الإنسان يضحي بحياته نفسها في سبيل شخص أو شيء.
ندخل في صراع ضخم حتى نحصل على شيء لا يفيد، نكاد نموت في سبيل نظرة رضا أحدهم، وحين نصل، نرى أن ما ضحينا به أكبر مما حصلنا عليه. لكن المدهش أن الإنسان في هذه النقطة يتعلم من أخطائه، فلا يتعلق مجددًا بتلك القوة، يتعلق أقل، ويريد أقل حتى يقابل اللعبة التي تفارقه، والشخص الذي لا يتمنى سواه، ولكن بعد فوات الأوان، فيحاول التمسك بالأشياء مجددًا، لكنه لا يستطيع، وكأن القدر يعاندنا ويأبى أن تحدث معادلة الراحة الكاملة، أن نحصل على ما نريد ونسعد به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top