منى يسري تكتب: انتفاخ ذواتنا المتهاوية

\"\"

\”أن تبذل جهدك في أن يفهمك الآخرون، إن الأمر لينطوي على جسارة وشجاعة كبرى\”.
جوليادكين.
ليس سوى اسمًا مستعارا لمليارات البشر، المصابين بجنون العظمة، الأمر الذي يجعلهم مهووسين بأن يراهم الآخرين، جوليادكين هو بطل رواية \”المثل\” لديستوفيسكي، بالطبع لم يكن ديستوفيسكي على علم بأن هناك مستنسخات عديدة لبطله \”جوليادكين\”، النرجسي، الأمر الذي يجعله يترقب نظرات الآخرين، انطباعاتهم عنه، يجعله يشعر أنه مراقب من زملائه في العمل بالرغم من كونه موظفا بسيطا، يتملق بالكثير من الكلمات المهندمة التي يمكن أن يتواصل بها مع الآخرين كمعبر عنه، إلا أنها ليست سوى الصورة التي يريد أن يراها الآخرين عليه، ينتهي الأمر ببطلنا جوليادكين، أحد أبناء نرسيس، وحيدًا، في عزلة اجتماعية، بعد تحطم كل توقعاته عن ذاته، وكيف أنه لم يكن محط إعجاب وأنظار الآخرين.
لم يعد جوليادكين وحده من أبناء نرسيس، حيث أظهرت مواقع التواصل الاجتماعي، التي أدمنها ملايين البشر، هذا الهوس الذي يظهر في شكل الحالة المكتوبة، والتفاصيل اليومية، والصور الحصرية في كل المواضع، صور عقب الإستيقاظ، صور على الشواطيء، ومع الأسماك تحت أعماق البحر، صور مع الأحبة، صور في كل وقت، تصير مشاعًا لأنظار الجميع، صور لا تظهر حقيقتنا، صور تعتليها الفلاتر حتى نظهر في مشهد من الكمال المنشود من الجميع، صور لا تقول من نحن، بل تقول ما نريد أن يراه الآخرون، الآخرون الذين تزيد غيرتهم، عندما يتطلعون إلى صورنا، ليجدوا أحداثًا لا يستطيعوا محاكاتها، أماكن لا يستطيعون زيارتها، وقصصًا لم ولن يعيشوها، تتتسع الفجوة بيينا وبين ذواتنا، تُحمل النفوس بالطاقات السلبية، نعجز عن التعبير عن دواخلنا.
ذات مساء أسير مع صديق في شوارع وسط البلد، صادفتنا إحدى الزميلات، ولم أكن أعرف سوى صورها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، كانت صورها لا تدل سوى على أنها فتاة فارعة الطول ذات جسم رياضي، وأناقة فريدة من نوعها، وحين تعرفت إليها بواسطة الصديق المشترك، لم تكن سوى فتاة جميلة ببساطتها ـ لكنها كانت شيئًا آخر غير ما رسمته الصورة، طولها لا يتعدى 150 سم، ووزنها ممتلىء كثيرًا، لكنها أرادت الهرب من تلك الصورة، التي يرفضها المجتمع فيطردها من سباق الجميلات، قررت الحصول على قوام رياضي ممشوق بواسطة الفلاتر، صارت شخصين لا يعلم أحدهما شيئًا عن الآخر، إن غربتنا تتزايد، وآمالنا المحطمة التي تتزايد يومًا تلو الآخر، ليست إلا تلك التوقعات المجوفة التي نصنعها داخل عقولنا، وانتفاخ ذواتنا الإفتراضية أمام الحقيقة، إننا رافضون للواقع، ولا نريد أن نقبل أنفسنا، ولا أن نفرض ذواتنا الحقيقية على الآخرين، إننا نريد أن نتعاظم، متناسين أننا جمعيًا لسنا سوى حفنة من الغبار أطلقها انفجار كبير قبل مليارات السنين، وأتينا نحن في آخر ساعتين بعمر هذا الإنفجار، إن العولمة قد أصابت البشر بالجنون، جنون يولد طاقة من القلق تستطيع هز القشرة الأرضية بأكملها، إننا وبواسطة مواقع التواصل الاجتماعي نعيش أزهى عصور البارانويا المكللة ببعض انفصام الشخصية، كل منا له ذوات متعددة، صور متعددة، ومزاجات متعددة، لكن كلنا ينشد إعجاب الآخرين، جمع أكبر عدد من اللايكات والتعليقات والمشاركات، أصبح إنعكاسا لمدى أهميتنا في الحياة.
عندما يصبح الأمر أشبه باللعنة التي تصيب أحد البشر، فإن لعنة العولمة أصابتنا جميعًا، ولا نملك قرار العودة لما كنا عليه سابقًا، إن الأمر أشبه بموت لا تستطيع القيام منه إلى الحياة مرة أخرى، وهل يعيش بيننا أحد الأموات اليوم بعد قيام إلى الحياة مرة أخرى؟
إن الاغتراب والوحدة سمات أساسية لهذا العصر، الذي نشير فيه إلى العصور الحجرية بالبدائية، لكن يتحتم علينا مراجعة مفهوم بدائية الإنسان، ومغزاها، حينها نستطيع تقييم هذا الذي نحياه في عصرنا الحالي، الذي تحيطنا فيه الوحدة، فنهرع لزيادة قائمة الأصدقاء، والاستمرار متصلين بشبكات الإنترنت أكبر وقت ممكن، تحميل المزيد من الصور، التي تدل على ماركة الحذاء الثمين، او ربما تكون خدعة لتظهر مدى ثراءك وقدرتك على اقتناء الثمين في وقت ابتلعت فيها ثروات الأرض بعض العائلات التي لا تتعدى 100 على مستوى العالم.
لازال ما نعرفه محصورًا بعد على نفوسنا الهشة الضعيفة، التي تتواهى خلف شاشات الإنترنت، وتضعف أمام قلة عدد اللايكات، ربما يكسرها تعليق فيه بعض الإنتقادات اللاذعة، لتتهاوى أمامه نفوسنا الهشة، التي تعيش اغترابًا من نوع آخر، خلقته العولمة التي تسحق الكل وليس من مهرب بعد الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top