مشاكل شعوب منطقتنا مع حكم العسكر أو ما يسمى بنظام الحكم العسكري مشاكل أبدية لا بداية محددة لها ولا نهاية متوقعة، فمثلًا في مصر بدأ حكم العسكر في قيظ 1952 بعد نجاح انقلاب 23 يوليو، كان وقتها يعيش المواطن المصري وهو يرى أربعة من دور العبادة المختلفة التي تقام بها شعائر لأربع ديانات هي اليهودية والمسيحية والإسلام والبهائية، كانت المشاكل قد بدأت تحيط باليهود منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948م ثم صدور قرار أو توصية -لا أذكر جيدًا- جامعة الدول العربية بطرد العرب اليهود من بلادهم 1950م، أي قبل وصول العسكر للسلطة في مصر بعامين، وهو قرار عنصري طائفي ولا يخلو من الغباء السياسي، الأمر غير المستغرب على العرب حديثي العهد بالسياسة بمفهومها الحديث ومتماشٍ مع عقليتهم المنغلقة الرافضة للتطور بشدة، فكان من أهم أثار هذا القرار الأحمق مد إسرائيل بعشرات الآلاف من المهاجرين الناقمين على الدول العربية والمدركين لكل كبيرة وصغيرة داخل كل دولة من الدول التابعة لهذه المنظمة.
كذلك كان هناك طيف سياسي واسع. حيث كانت هناك أحزاب مثل الوفد ومصر الفتاة والأحرار الدستوريين وغيرهم، والكثير من الحركات الوطنية والتحررية مثل \”حدتو\” و\”الفن والحرية\” و\”الخبز والحرية\”، وحين قبض العسكر على زمام الأمور هالهم ما رأوا من ألوان وتنوع فكري كبير، هم من عاشوا الجانب الأكبر -والأهم- من حياتهم لا يعرفون شيئا عن التنوع أو الاختلاف، كل شيء موحد من مأكل وملبس ومشرب ومظهر عام وحتى قصة الشعر وغالبًا نوع السجائر. حتى الأسّرة والأغطية ولون السيارات والرمال التي تسير فوقها، بالطبع لم يتحملوا أو لم يتفهموا كل هذا التنوع وبالتالي لم تكن لديهم القدرة على التعامل معه.
فانقسموا لفريقين، فريق يدعو للاكتفاء بشرف تحرير البلاد من المحتل الأجنبي والعودة للثكنات وترك الحياة السياسية والمدنية لأهلها، وفريق يدعو للبقاء في السلطة والسيطرة على مقاليد الأمور.
في النهاية انتصر الفريق الثاني، وحكم مصر قوم أُحاديو الرؤى بحكم تركيبتهم العسكرية، معذورون هم في محاولتهم تحويل البلاد لكتيبة واسعة. فهذا هو ما يعرفون التعامل معه، إن من يبقى في دار العرض السينمائي لمدة ساعة ونصف يصدمه ضوء الشارع عند الخروج فيغمض عينيه التي يؤلمها الضوء بشكل مؤقت، لكن الجنرال المدجج بالسلاح والسلطة لا يستطيع التصالح مع الضوء ولو بألم مؤقت، فأظلم المدينة ليسير هو مفتوح العينين بلا ألم، فكان القرار ذات شتاء بتجميد الحياة السياسية، وذلك بحل كافة الأحزاب ولينضم كل من يريد أن يمارس العمل السياسي إلى مؤسسة واحدة تابعة للسلطة \”الاتحاد الاشتراكي\”، سارع العسكر في اتخاذ سلسلة من القرارات التي كان من نتائجها خروج الجاليات المختلفة من البلاد، لتفقد بذلك مصر -خصوصًا الإسكندرية والقاهرة- طابعها الكوزموبوليتاني.
جاءت سنة 1959م لتشهد محاولة إسرائيل القيام بعملية استخباراتية كبيرة في الداخل المصري، فيما يعد أول عملية إرهابية في التاريخ الحديث، والتي عرفت باسم \”فضيحة لافون\”، تلك العملية جعلت الجنرالات يضعون كل ما هو يهودي في خانتين لا ثالث لهما.. خائن أو مشروع خائن، وسرعان ما تم تضييق الخناق على كل ما يمت لليهود بصلة. وبالفعل حدث ما أرادوا.
ثم في عام 1960 أصدر كبيرهم قرارا منفردًا بإغلاق المحافل البهائية وحظر شعائرها. ومنح هذا القرار لقب قانون، رغم عدم عرضه على مجلس الأمة -مجلس الشعب الآن- بعد قليل تم البدء في بناء السد العالي، الذي استوجب حتمية تهجير أبناء النوبة من أراضيهم، إلا إنه تم استغلال هذا المبرر القومي في تشتيت النوبيين وتمزيق أوصال عائلاتهم عن طريق تهجيرهم لعدة أماكن متباعدة عن بعضها البعض وعن النيل مصدر ثقافتهم ورزقهم الأول، ولم يتم ذكر أي شيء عن حضارتهم في المقررات الدراسية وحتى البحيرة التي حلت محل قُراهم أطلق عليها اسم الجنرال ذاته.
ولا أعرف متى تحديدًا بدأ التعامل مع بدو سيناء بالشكل الذي جعلهم ينتفضون غير مرة لأجل مطالب تندرج كلها تحت عنوان واحد كبير \”حقوق المواطنة\”.
وبعد أن فر \”كوهين\” وترك \”حسن ومرقص\” ينعمان فقط بدفء الوطن، جاء الدور على \”مرقص\” ليعاني من تضييق في بناء الكنائس أو حتى ترميم الموجود منها، مع إعطاء \”حسن\” حق الدعوة لدينه وتخصيص أرقام كبيرة من ميزانية الدولة لهذا الغرض وبالمقابل تجريم التبشير بدين \”مرقص\”، علاوة على الكثير من القوانين والإجراءات التي أدت لرحيل الكثير من أبناء \”مرقص\” عن وطنهم.
لماذا يا ربي لم يفكر أن يفتح عينيه تدريجيًا حتى تعتاد على الضوء؟ إنهم يحلقون رأس كل من يسوقه حظه العثر ليقع تحت أيديهم وهو من أصحاب الشعور المميزة، مثل ما حدث مع المغني رامي عصام والممثل علي صبحي والمنشد نور وغيرهم، خلال فترة حكم المجلس العسكري، إنهم لا يريدون سماع أي صوت غيرهم، إنهم يكرهون أي شكل أو صوت لا يسيطرون عليه، إنهم أحاديون.. إنهم نمطيون.. إنهم لا يستوعبون الاختلاف ويكرهون التنوع.
لماذا لم يبق الجنرال في دار العرض إلى الأبد.. لماذا لا يُعرض له فيلمه المفضل بلا توقف.
للتواصل مع الكاتب:
ramy1977@gmail.com