محمود جمال أحمد يكتب: سيدنا إبراهيم ومعضلة الإيمان

\"\"

قرأت آية في سفر إشعياء تقول في نهايتها: (إن لم تؤمنوا لن تأمنوا) وقد كانت الآية التاسعة في الإصحاح السابع. ظننت لوهلة أنها تقول: (إن لم تؤمنوا لن تؤمنوا) وعلى الرغم من تقارب اللفظ إلا أن المعنى مغاير تماما وكنت أتمنى أن تكون الصيغة الثانية فهذا سيؤكد ظني بأن الشك بداية لا نهاية لها. ثم مر من الوقت ما هو ليس بقليل حتى قرأت سيرة سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في كتاب (أنبياء الله) للأستاذ أحمد بهجت وقد تكلم عنها باستفاضة ولم تكن تُحكى لي مسبقا إلا باقتضاب. وهي من أعظم ما سُرد فلها حبكة مسبوكة من بداية ووسط ونهاية، وأجزائها الثلاثة تستعرض سيرة أبو الأنبياء. صعب المراسي. الرافض للمسلمات فأقام الحجة على وثنيات عصره منذ أن كان صبيا واصطفاه الله بعد تأرجح من الشك.

الطفولة\\البداية:

ولد إبراهيم في أسرة ارستقراطية فلم يعاني من الدوار الوجودي لأبناء الطبقة الوسطى ولكنه كان يحب الجدال فيقف ابن السبع سنوات يجادل أباه آزر -أو عمه الذي رباه بعد وفاة والده فاختلفت الأقاويل- وقد كان جالسا وفي يده فأس ينحت آلهة!
قاطع الابن أبيه ليسأله: (إذا كان هناك الكثير من الآلهة فماذا سيحدث إن عبدت إلها فغار مني إله آخر وقام خصام بينهما؟) و(من أي شيء تُصنع الآلهة؟) و(كيف تقول إنها ينقصها النفس ومن المفترض أنها تهبنا النفس؟)
كان يجاريه الأب أحيانا وأحيانا يجاوب عن عقيدة وعندما يغالبه إبراهيم فيكاد يغلبه يهدده الأب فبعد آخر سؤال حنق عليه وقال له: (لو كنت بالغا من العمر ما تتمكن معه من الإدراك لشججت رأسك بهذا الفأس)
أكمل الجدال حتى صفعه.
تخيل معي الأب الثائر القابض على فأس نحت به مسبقا الإله مردوخ ذو الآذان الطوال الذي كان يمتطيه إبراهيم وهو صغير، والجهل المستفز الذي يدفعك إلى الغضب. كل هذا سيخلق ذكرى يصعب طردها خصوصا وقد أتخذ إبراهيم موقفا سلبيا فأمسك عن الجدال ليتحاشى ضربة فأس.
سنتبين صدى تلك الواقعة في الطور الآخير من حياة سيدنا إبراهيم.
يخبرنا سيجموند فرويد في كتابه (تفسير الأحلام) أن أحيانا العقل يحلم بذكريات لم نعطيها مساحتها في الصحو، ويتداخل الواقع مع الحلم فمثلا إذا مس قدميك ماء وأنت نائم ممكن أن تحلم بالغرق، بالإضافة إلى أننا نشبع رغباتنا في أحلامنا.
جاءت تلك الذكرى على هيئة رؤيا لإبراهيم وهو شيخ، ربما كانت مشوشة وطمسها الزمن فبدلا من أن يشبع رغبته في إلحاق الأذى بمردوخ -شبيه الكبش- أو أبيه مستعينا بالفأس. نسى ملامحه وكرر موضع الأب الذي يشج رأس الابن وليس شرطا أنه رغب ولكننا نفرغ طاقتنا فيمن هو أدنى مننا كالتلميذ الذي يهينه معلمه وعندما يكبر ويصبح معلما يهين تلميذا آخر ولكنه لا يهين المدرس القديم.
إذن صار إبراهيم آزر، وصار إسماعيل مردوخ، وصار الفأس سكينا. وربما تناهى إلى الحلم صوت ماشية تسرح أمام المنزل. علم سيدنا إبراهيم أنها رؤيا صادقة من الله وعرضها على ولده إسماعيل الذي لم يناقشه وأسلم كلاهما وعند التنفيذ افتدى الله إسماعيل بذبح عظيم والذي هو في الأصل مردوخ الإله المشوه ونجوا من البلاء الذي سخر الله له العوامل اللازمة.
لم تقتصر تلك الواقعة على التضحية فقط بل تحرير الإنسان من العبودية لرغباته واسلامه لله وحده. إنها واقعة تخلص الروح مما يشوبها من معوقات وظلام -ولو عن جهل- لتغدو صافية طاهرة.
وهنا تكمن فكرة العيد فليس فقط للأضاحي وملىء البطون حتى يستنجد القولون والمعدة، وترتجع العصارة للمريء. الفكرة تتعدى ذلك.

الشباب\\الوسط:
تبدأ رحلة البحث عن إله وقد علمنا في الطور الأول الـ Wound وهو في السيناريو نقطة تحول داخلية للشخصية فتكتسب بعدها Identity جديدة وموقعا أقوى وإصرارا نحو التغير. فانتقلت المعركة لميادين أوسع وبدلا من مجادلة الأب وحده سيجادل قومه.
وقتها كان هناك ثلاثة عبادات رئيسية وعلى الرغم من الجاهلية المسيطرة إلا أنهم كانوا متسامحين فيمكنك التنقل بكل أريحية بين الثلاثة.
العبادة الأولى:
عبادة الأفلاك. كان كبير الكهنة ينتحب أمام صنم في المعبد فأخبره إبراهيم: (لماذا تبكي وهو لا يسمع؟)، سحبه أبيه من ذراعه وجره إلى المنزل ثم عاد ليكمل المناسك. ذهب إبراهيم ليلتها ليختلي بنفسه في كهف أعلى جبل والسماء صافية كفاية لتظهر النجوم وربما الكواكب. فرأى كوكبا وقرر أن يعبده فأفل ثم رأى القمر يبسط لمعانه الفضي في الفضاء فعبده حتى طلع الصباح وخضبت الشمس الجو بالأصفر الذهبي وقد كانت أكبر وأزهى وليزعزع العقيدة في نفوس قومه كان يطلعهم على الأخبار أولا بأول وعلى لسانه سخرية ووراء باب موصد في قلبه يكمن الله.
العبادة الثانية:

وهي عبادة الأصنام. بلغ إبراهيم من العمر ما يتمكن معه من الإدراك وحمية الجدال اشتدت مع أبيه حتى طرده من المنزل وفي الليل والطرق خالية وقد رحل الناس للبر الثاني للنهر حيث يقام احتفال. ذهب إبراهيم للمعبد وحطم جميع الأصنام إلا واحدا ترك عليه فأسه. فزع القوم حين عادوا والمتمرد الوحيد هو إبراهيم فأحضروه وحكموا عليه بالحرق حيا.
تجمع القوم مهللين حول النار التي قذف فيها إبراهيم. كادت الحرارة أن تحرق الجمهور الذي على بُعد أمتار ولكنها كانت بردا وسلاما على إبراهيم.
نجا إبراهيم وانجلى الغيب عن جبريل -عليه السلام- يأمره بأن يتطهر في بركة ويصعد إلى الجبل ليحدث الله. نفذ إبراهيم الأوامر في ذهول وأسلم لله.
قال عمنا صلاح جاهين في رباعية له:
ياللي بتبحث عن إله تعبده
بحث الغريق عن أي شيء ينجده
الله جميل وعليم ورحمن رحيم
إحمل صفاته وإنت راح توجده
عجبي!
حمل سيدنا إبراهيم صفات الله عز وجل فوجده وأتخذ الله منه خليلا وجعله أبو الأنبياء. تخيل معي الحال إذا استسلم سيدنا إبراهيم للمسلمات وكلام الكهنة. إذا لم يشك. إذا أطاع وعاش كما تعيش البعير، يُرمى له الفكر كما يُرمى لها العلف. إذا حدث كل هذا، هل كنا سنذكره الآن؟
العبادة الثالثة:
هدم سيدنا إبراهيم الديانة الثالثة بعدما اصطفاه الله فأقام الحجة على ملك أمام عبيده. وذكر الله الحوار في سورة البقرة:
\”ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك إذ قال إبراهيم ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ۖ قال إبراهيم فإنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر ۗ واللّه لا يهدي القوم الظّالمين\”
(258)
الكهولة\\النهاية:
ذاع صيت سيدنا إبراهيم ومضى يسعى في هداية القوم بعد ثلاثة انتصارات ومعجزة ورغم كل هذا لم يؤمن معه غير امرأة تسمى (سارة) صارت فيما بعد زوجته ورجل يدعى (لوط) صار نبيا.
هاجر معهما إلى أور ثم حاران ثم فلسطين واستقر في مصر. شيخ دون سند فاقترحت عليه سارة -ولم يبذر الله بعد من ذاته روحا في رحمها- أن يتزوج من الخادمة (هاجر) التي أهداها لهما ملك مصر. تزوجا وأنعم الله عليه بـ(إسماعيل).
لم تغفل روح إبراهيم الوثٌابة ورغم المعجزات والتجلي. ظلت الفجوة بين الإدراك الإلهي والإدراك البشري شاسعة فها هو يطلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى. في سورة البقرة:
\”وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتىٰ ۖ قال أولم تؤمن ۖ قال بلىٰ ولٰكن لّيطمئنّ قلبي ۖ قال فخذ أربعة مّن الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل علىٰ كلّ جبل مّنهنّ جزءا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا ۚ واعلم أنّ اللّه عزيز حكيم\”
(260)
فعل وهدأ باله.
استيقظ في يوم وأمر زوجته (هاجر) أن تحضر رضيعها فوجبت عليهما رحلة. مضوا من مصر حتى شبه الجزيرة العربية. منهكين على ظهر الدابة. ترك زوجته وابنه وابتعد عنهم يدعو الله:
\”رّبّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصّلاة فاجعل أفئدة مّن النّاس تهوي إليهم وارزقهم مّن الثّمرات لعلّهم يشكرون\”
(37)
سورة إبراهيم.
تعجبت الأم ثم أدركت أنه أمر إلهي. انتهى زادهم ووصل بهم الكرب أشده فذهبت لتسعى بين جبلين فتصعد على (الصفا) تارة وعلى (المروة) تارة أخرى مشرئبة إلى أي مسطح مائي أو قافلة. المسافة بين الجبلين حوالي نصف كيلو متر ومجال الرؤية لن يختلف كثيرا بيد أنها لم تتوان عن المحاولة ولم تتخل عن الأمل، فسعت سبع مرات حتى ضعفت وذهبت لتطمئن على رضيعها الذي ضرب الأرض بقدمه الدقيقة فانفجرت عن نبع زمزمي.
يرزق الله عباده مجددا ويجازيهم إحسانا على أملهم وسعيهم فإنه لا يحب العبد الكسول، ومن الأمل خرج العمران كما نرى.
تتابع الأحداث. رؤيا الذبح. نزول جبريل وإسرافيل وميكائيل في هيئة بشر فيبشرون سارة الزوجة العاقر بإسحاق ومن صلبه يعقوب فتعجب. ويبلغون إبراهيم بما سيحيق من عذاب بقوم لوط فيغضب ويخاف على المؤمنين منهم ومن ممكن أن يصير مؤمنا فيردون بقسوة:
\”يا إبراهيم أعرض عن هٰذا ۖ إنّه قد جاء أمر ربّك ۖ وإنّهم آتيهم عذاب غير مردود\”
(76)
سورة هود
ويتكرر الفارق بين الحكمة الإلهية والعقل البشري وهو أقربنا إلى الله وقد ذاق من نعمته ما ذاق.
تذهب الملائكة لتنهي مهمتها وتمر الأعوام ويلوون العزم على بناء الكعبة بوحي إلهي.
تضمحل بعدها سيرة سيدنا إبراهيم ويكمل إسماعيل وإسحاق ويعقوب نشر الدعوة ومن بعدهم من الأنبياء. وقد وجدنا للشك برا وأخرجنا من اليأس عمرانا ومن العصيان طاعة فأصبحنا كلنا على ملة إبراهيم، ملة العقل:
\”ومن يرغب عن مّلّة إبراهيم إلّا من سفه نفسه ۚ ولقد اصطفيناه في الدّنيا ۖ وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين\”
(130)
سورة البقرة.
مدونة الكاتب:
https://mahmoudgamalsite.wordpress.com/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top