ما الذي جنته يد أم كلثوم حينما غنّت قائلة \”لسّة فاكر قلبي يدّيلك أمان\”؟ أغنية كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى ولحنها الأستاذ السنباطي، وتدور الأغنية في فلك الحبيب المغدور الذي انتهى لتوّه من علاقة مدمّرة أو \”مسمومة\” كما يُطلق عليها والذي يواجه محاولات عودة المياه إلى مجاريها بما لذ وطاب من الكلمات مسنونة النصال والرافضة رفضًا قاطعًا لأي محاولة للعودة والتي لا تخلو من الشماتة. الحب هنا يظهر في أصعب صوره، صورة العاطفة التي قتلها الإرهاق والاستنزاف والغدر وتحوّلت إلى أي شيء آخر سوى الحب، تحوّلت إلى رغبة في الهروب، التوحد، الاستغناء المُطلق أو حتى الرفض المرير القاطع الشامت.
لعل أبرز مقاطع تلك الأغنية والذي يتحدث فيها الشاعر بشيء من العتاب المرير هو: \”ياما حليت لك آهات قلبي، وهي من قساوتك انت والأيام عليّا\”. ما أقبح تلك الحالة، أن يقتات أحدهم –لسبب ما- على آلامك ويجعل من تأوهات الألم خلفية مسلية لمشاهد حياته المتعاقبة. من يطرب لأشجان القلوب التي أضناها بالألم، وتكتمل الصورة البديعة للحالة القبيحة بعبارة \”كنت تسمعها نَغَم، واسمع صداها نار\” لنرى إحدى أفصح وأروع العبارات التي وصفت السادية والاستغلال المُقَنّع بعاطفة راقية كالحب. لعل تلك الأغنية هي درّة تاج السيدة أم كلثوم والتي خطّها الجندي المجهول عبد الفتاح مصطفى، هذا الرجل الذي تحدث عن العشق بشكل مطلق وكأروع ما يكون من ملكة التعبير والرؤية. العشق كمفهوم مستقل بلا رتوش ولا تفاصيل، دون الهبوط إلى سطح الأرض وبشكل مجرّد من المُلابسات، ويتجلّى ذلك في أغنية \”ليلي ونهاري\” حينما يتحدّث الرجل عن لسان أم كلثوم في التعريفات المعجمية للعشق والشجن.
جاء زمانٌ في مصر يستمع فيه المواطن –بشكل اعتيادي- إلى صوت أم كلثوم تغنّي عن المفهوم المُطلق للعشق ثم يأوي إلى فراشه مطمئن البال ورائق المزاج، واليوم ينام المواطن على أصوات البيانات الرسميّة التي تلوّح من بعيد لفوائد زيادة الأسعار على الوطن والإنسان ويستيقظ على حياة تكلّفه الكثير من المال والجهد والطاقة وتآكل الروح، حياة مترعة بالأخبار السيئة والتبريرات المعدّة سلفًا للفشل الحكومي والفساد الإداري والعمى السياسي.
ولكن هل إنسان هذا العصر كإنسان العصر المذكور سلفًا؟ بمعنى أن المواطن الذي كان يركض ليلة الخميس ليسكن إلى جوار الراديو في انتظار حفل الست هو ذلك المواطن الذي ضج بالغضب وامتلأ ثورة وصار وجهه كثمرة الطماطم وكاد ينفجر الريح من مؤخرته من فرط بمجرد أن اكتشف أن الفنانة نيللي كريم تمارس عادة غاية في الغرابة، وهي أنها اعتادت أن تنزل البحر – يا للعجب – بالمايوه؟ هل هذا هو نفس المواطن الذي كان يسير في شوارع مصر وسط أفيشات أفلام سعاد حسني ونادية لطفي وهند رستم؟ أظن أن الجواب هو \”نعم\” هو المواطن ذاته وما اختلف من أمر سوى أن الرجعية قد ابتاعت البلاد من حكّامها حتى ابتلعت العادة والقيمة والقدرة على الرؤية والبصيرة والحكم على الأشياء، ولم يبق أمامها سوى ابتلاع الأرض وابتياعها فأصبح الأمر مكشوفًا أكثر قليلًا فقط. ولكن قبل كل ذلك فالرجعية قد صبغت الجميع بذات الصبغة حتى أصبحوا يغضّون البصر عن الاغتصاب الأسري والتحرش بالبنات –بل ويبررونه- واغتصاب الأطفال والاستغلال الجنسي والابتزاز وطلب الرشوة الجنسية في الجامعات، في حين يلومون امرأة قامت بعمل طبيعي عرفه الإنسان منذ فَجر التاريخ وهو أنها ارتدت ملابس البحر على البحر فأصبحنا أمام كائنات تمتلك قدرة خارقة على \”خرتقة\” المنطق –ولم أجد لفظًا أنسب من الخرتقة- والخوض في دهاليز المغالطات المنطقية حتى إنك تكاد تشم رائحة نتنة منبعثة من بين أحرف الكلمات في تعليقات تلك الكائنات على صورتها.
حتمًا هناك أمر خاطئ، لا علاقة له بالتشدد وهذا الهراء، تشدد؟ هذا المتحرش متشدد؟ لا، الأمر هنا متعلق بحالة غباء قد طالت قطاعات من البشر لابد وأن يخضعوا لعلاج نفسي مكثف، هنا تحوّلت قيم هؤلاء إلى أمراض أتلفت خلايا الدماغ وأفسدت المنطق والفطرة حتى إنهم صاروا يغضبون حينما يروا امرأة ترتدي ما تريد ارتدائه ورجلا يعتنق من أفكار ما يريد اعتناقه. أعتقد أن هؤلاء قد يقطعوا شرايينهم حين نذكر أن الشاعر عبد الفتاح مصطفى مؤلف الأغاني السابق ذكرها هو ذاته مؤلف ابتهال \”مولاي إنّي ببابك\” للشيخ الراحل سيد النقشبندي، وأن ملحنه هو الشقيّ بليغ حمدي رحمهم الله جميعًا ورحمنا من الجهل والجهلاء.