– أنا مش فاهم أي حاجة! دلوقتي فين يوسف؟!
– ما أنا قلت لحضرتك.. أنا يوسف.. بس الـ…
– ثواني.. إنتي يوسف؟!
– لأ أنا فريدة.
– إنتي فريدة ولا يوسف؟!
– ما أنا جاية لحضرتك في الكلام.. أنا كان اسمي يوسف.. بس دلوقتي اسمي فريدة.. أصل أنا عندي حاجة كده اسمها اضطراب الهوية الجنسية.. يعني بنت في جسم ولد.. ولد بمخ بنت.. يعني هي حاجة زي كده.. ودي حاجة مالهاش حل غير إننا نعمل عملية عشان نغير الـ……
– آاااااااااه.. بس بس فهمت. يعني إنتي متحولة جنسياً؟!
– عابرة لو سمحت!
لا تدري فريدة كم من المرات اضطرت للدخول في مثل هذا الحوار (الذي نادراً ما يكون لطيفاً سلساً هكذا) عشرة مرات؟.. عشرين؟.. مائة؟.. ألف؟.. مليون؟.. لا تدري. لكي توضح فقط كيف أنها أنثى تحمل أوراقا ثبوتية لذكر، يحتاج تغييرها في هذا البلد إلى العديد من الأعوام من المناهدة والطلوع والنزول والجري هنا وهناك (الذين تعرفهم بكل تأكيد إن كنت مواطناً في هذا البلد الجميل)
أضف إليهم كمان العديد، والعديد، بل والعديد من الإهانات التي لا تحتمل، التي قد تقتلك وأنت واقف مكانك، مما دفعها في النهاية إلى حبس نفسها في سجن اختياري، عزوفاً واكتئاباً.
كان هذا الحوار مع ضابط الأمن في الهيئة العامة للتجنيد والتعبئة، استغرق الأمر من فريدة في إنهاء أوراقها والحصول على الاعفاء من التجنيد وحدة حوالي عشر مشاوير، فما بالك بتغيير الهوية في البطاقة الشخصية من ذكر لأنثى مثلاً، لا يوجد قانون ما ينظم مثل هذه الأمور، فنحن في نظر القانون غير موجودين من الأساس، وبناء عليه قد ترفض المحكمة، قد ترفض نقابة الأطباء، قد يرفض الأزهر الشريف (الذي لا يعلم إلا الله ما دخله بمثل هذه الأمور)، وقد يرفض الطب الشرعي، أو موظف السجل المدني، بل قد يرفض المجند الواقف على بوابة السجل المدني.. (إنت اتجننت في عقلك؟!.. عايز تبقى مرة؟!.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. هي الدنيا جرى فيها إيه بس!.. دي علامات يوم القيامة)
نعم عزيزي القاريء، القيامة سوف تقوم قريباً، وعليك أن تستعد لها، فنحن موجودون على سطح الأرض.
استيقظت فريدة مبكراً، ارتدت ملابسها التي حاولت أن تكون على أكبر قدر ممكن من الاحتشام: بنطلون أسود واسع، والبلوزة الحمراء الواسعة أم فيونكة (التي تجعلها شبه مدام فيبي بتاعة الكنيسة)، لمت شعرها إلى الخلف، وخرجت من منزلها متمنية أن يمر اليوم بأقل قدر من الدمار المعنوي، واتجهت إلى الهايكستب.
تمر فريدة في تحركاتها الداخلية داخل الهايكستب عادة بالعديد من المكاتب، العديد من الضباط، والعديد من المجندين والعاملين، تلاحقها نظرات الدهشة والذهول: إيه إللي جايب المزة دي هنا؟!
لكنها في ذلك اليوم كان عليها أن تحضر استمارة جند ما (سبعة جند، أو تمانية جند، أو ستة جند معدل، حاجة كده) من إحدى الشبابيك، ولكي تصل إلى هذا الشباك، فوجئت بأنها يجب عليها أن تمر بساحة واسعة، تمتلئ بالمئات، أو ربما الآلاف من الشباب الصغير الجالس على الأرض يستعد لبداية فترة تجنيده، جلبة هادرة كجلبة إستاد كرة قدم، انطفأت تماماً حتى تستطيع أن تسمع أصوات الرياح، عندما خطت فريدة أولى خطواتها داخل الساحة تحمل في يدها دوسيهاً مثل الذي يحملونه جميعاً:
\”إيه ده؟!\”.. \”ده إيه دي؟!\”.. \”ده خو… ده ولا إيه؟!\”.. \”استغفر الله العظيم\”.. \”كانت واد وقلبت\”.. \”واد يا خواا…\” .. \”ما تيجي أما أنيـ…\”.. \”ده الجيش شكله هايبقى حلو أهو يا جدعان\”
كان عليها أن تمر من بينهم في مشوارها إلى الشباك، جيئة وذهاباً، تحاشت فريدة التقاء نظراتها مع نظرات أحدهم، لكنها كان يمكنها أن تتخيل: النظرات المترددة بين الجوع والتحفز، الهمسات التي تعرف جيداً بماذا تهمس، مئات الأيدي التي قد تمتد إليها بالشر في أي لحظة، وآلاف.. آلاف الأفكار التي لا تقال لكنها تستطيع أن تسمع صداها في رأسها بوضوح. الجحيم هو الآخرون. نعم. وكان هناك المئات من الآخرين الناقمين على وجودها بينهم، بل على وجودها في الحياة من الأساس.
وارتفعت الصفافير -مئات الصفافير- في أذني فريدة، ورأسها، وعقلها، وروحها المكلومة. وما أن خرجت من الساحة الواسعة بعد أن أنهت مهمتها، حتى خارت قواها. مادت الأرض بها. وسقطت مغشيا عليها.
أغلقت فريدة غرفتها عليها بعد ذلك اليوم لفترة ليست بالقليلة، لا تتواصل مع أحد، ولا حتى مع نفسها، لا تعلم كم من الوقت استغرقت، وكم من البكاء احتاجت، لكي تستطيع الخروج من غرفتها، والحديث مع البشر مرة أخرى.
لكنها خرجت…