أستيقظت على صوت بكاء مكتوم، ظننته من التلفاز، لم أهتم ظللت أتقلب لدقائق على السرير، أفكر فى القولون والتهاب عصب الأذن وروايتى التى تؤرق كل أفكارى، حقيقة، الرواية تستحوذ على نصف أفكارى والنصف الآخر يذهب لانتفاخ بطنى المستمر وصفارات أذنى ومصر، منذ فترة وأنا حبيس الأدوية والدكاترة والأخبار المشئومة.
بعد رحلة طويلة من دكتور قلب لدكتور معدة ودكتور معدة لدكتور قلب، عرفت أخيرا أنني أكتسبت صديقا سيء الطباع، مزاجى، وهو القولون، بجانب عادة لا أستطيع التخلص منها وهى التدخين، وخلال الرحلة الطويلة عبر عيادات الدكاترة، صرفت ما يكفى من المال، صرفت ما يكفى لأدفع فلوس ترم كامل فى الجامعة ، لم يهتم أى دكتور بحالتى المادية، ثمن الكشف 200 جنيه، علاج يزداد ثمنه كل أسبوع تقريبا، الأسبوع الماضى، صرفت حوالى 350 جنيه بسبب إلتهاب الأذن، ولا اعرف مدة العلاج وما سوف أصرفه بعد ذلك، حقيقة مجرد تفكيرى فى كشف بـ 200 جنيه، يشعرنى بالغثيان.
قبلا، كنت أذهب للعيادات الملحقة بالمساجد، أدفع 20 جنيه وأنتظر دورى، احيانا يكون دورى رقم 23 فى الكشف، أنتظر فى ممر طويل وسط الفئة الأشد فقرا فى الوطن، أدخل للدكتور، خمس دقائق أو أقل وأنصرف، لا أجد مساحة لشرح ما يحدث فى جسدى وما أشعر به، أتهمنى بعض الأصدقاء إننى \”موسوس\”، لم أهتم، نصحنى البعض الآخر بالذهاب لدكاترة \”محترمين\” أصحاب كشف الـ٢٠٠ جنيه، تغلبت على فقرى وذهبت، وصرفت فلوس مازالت أندم عليها حتى الآن، صرفت حوالى مرتب شهرين، من عمل غير مجدٍ فى الأساس.
ظل صوت البكاء المكتوم، يصل إلى أذنى المتضررة، نهضت من السرير، أفكر فى أحد أبطال روايتى، ماذا أفعل به؟ أين يذهب وكيف يشعر وتلك المدينة الماثلة فى أفكارى، مدينة قائمة على المأساة، هل تشبه القاهرة فى شيء؟ عندما وصلت الصالة، وجدت أن صوت البكاء، هو صوت أمى، منذ فترة طويلة لم أجدها تبكى بهذه المرارة، نظرت للتلفاز، وجدت شاشة مقسمة على قناة فضائية، كل قسم لجنازة أحد شهداء الحادث الإرهابى الأخير فى سيناء، المنيا، الدقهلية والمنوفية والعاشر من رمضان، تبكى أمى وتتمتم بالأدعية، تمسح دموعها، بالعباءة، لم أتحدث معها، شعرت بحزنها، وبعدها بدقائق لم أجادلها عندما قالت \”الله يرحم أيام حسنى مبارك\”، للمرة الأولى لم أدخل معها فى نقاش حول حسنى مبارك والثورة وخلافه، مازالت أمى تمقت الثورة بحماس، لأننا دائما وأبدا نعيش على شفا الفقر، ندفع ثمن كل شيء، ونحيا لنعافر فى ظروف لا يتحملها أحد، لكننا نحيا على أى حال.
تفهمت كره أمى للثورة متأخرا، فقدت حماس المناقشات معها ومع أى حد تقريبا، فى مرة كنا نتحدث وشتمت الثورة، وهممت بالرد عليها عندما أخبرتنى عن أسعار الطماطم فى السوق بحرقة بالغة وأن مصروف الشهر لا ينفع.
وسط هذا الغلاء والدم والظلم الفادح الذى يجتاح الوطن، لا أجد ملامح أي ثورة على الأوضاع، تلوح فى الأفق، الثورة الوحيدة التى أراها وأشعر بها، هى ثورة قولونى.
منذ الحادث المأساوى فى سيناء، وأنا أنتظر كشف أسماء الموتى، أو صورهم، أعرف شخصا هناك، لا تربطنى به معرفة وثيقة، لكننى جلست معه عدة مرات، تجاذبنا أطراف الحديث وسمعته وهو يلقى النكات بطريقته الخاصة ويحكى عن سيناء، يحكى عن الموت دون خوف، عن الرصاص المتطاير، عن فكرة إن الذهاب للحمام، هى مغامرة محفوفة بالمخاطر، مجرد \”فك مياه\” قد تجعله هدفا لقناص داعشى، لم أجده فى الكشوفات، وجدت آخرين يشبهونه، نفس الظروف والأحوال، نفس الأحلام المتقاربة، حلم الزواج والأسرة وعمل ثابت فى مصلحة حكومية، حلم العودة لأصدقائهم وأهاليهم، وترك الدماء والرمال خلفهم، أبطال بأسلحة متهالكة.
مازالت أمى تبكى، ومأساة الوطن مستمرة، أخبار متداولة عن نوبة غلاء أخرى، بوستات لمعارض مصرى على ما يبدو يعارض نفسه، وإخوانى يشمت فى شهداء الجيش المصرى بكلمات مسمومة، وإخوانى آخر وصف الدواعش بأهلنا وأن ما يحدث فى سيناء هى حرب أهلية، ظللت لدقائق أشتمه بصوت مسموع، وشيرت البوست على الفيس بوك لأشتمه مرة أخرى قبل أن أحذف البوست حتى لا تطاردنى شرطة الأخلاق بمناقشات بديهية عن العيب، سئمت هذه المناقشات نخوضها منذ سنوات، بلا أى تغيير.
أعيش وسط كل هذا يوميا، اختفاء قسري، إعدام، قبض وملاحقات أمنية، شماتة، إرتفاع أسعار، قولون وصفارات أذنى، لا يوجد جديد والقديم مازال يعُاد، أعيش فى وطن يلاحقنى يوميا، بالمصائب، أحاول التركيز فى روايتى الأولى، أنجح كثيرا، وأمسح مئات الكلمات يوميا أحيانا، أشعر اننى أبهت على أبطالي، أريدهم أن يصرخوا دائما، أن ينتصروا على مأساة وجودهم فى وطن يلفظهم، لا أستطيع الصراخ، الصراخ فى الوطن ممنوع، إلا صراخ الموت، صراخ الاعتراض، قد يرسلك للسجن لتعيش أفضل أعوامك فى زنزانة ضيقة.
لدي ميعاد عند الدكتور الأربعاء القادم، لأدفع مزيدا من أموال لا أمتلكها، فى الغالب استلفها لأسددها لاحقا، ولدى ميعاد يوميا مع أخبار الموت والغلاء، وميعاد فى فترة الظهيرة مع أبطال روايتي وقهوتى الرديئة وحجر الشيشة، لا أرى الكثير من الناس، تزدحم حياتى بالأفكار وتخلوا من البشر تدريجيا، مجرد كلمات مفككة أكتبها لأتغلب على صوت بكاء أمي رغم صمتها، لكن صدى البكاء يزاحم صوت صفارات الأذن.
تذكرت ظهيرة اليوم إنه على سور محطة للقطارات قرب محطة مترو عين شمس، كتب أحدهم فى غفلة عن الحكومة \”عواد باع أرضك\”، متشبثا بأمل أن يقرأها الناس العابرون يوميا من هذا المكان وينتفضوا ضد خيانة النظام وحكومته، لكن لا، من يعبر من أمام محطة القطارات هو هو من يعبر من أى مكان وشارع آخر، لا ينظر للشعارات الموجهة له، بنفس حماسة من كتبها، ينظر إليها بعيون لامبالاية، تثقله المسئوليات والسلع، يسير محني الظهر، لا يهتم بالأرض أو أى شىء آخر، يرتاب فقط، تجاه أى شعار يذكره بالثورة، الثورة معناها خراب، يعتقد أن الحياة تحت مظلة الديكتاتور العجوز مبارك كانت أفضل رغم كل شيء.
مهزوم دون أن يدخل فى أى معركة، ينهزم وهو جالس فى منزله أمام شاشة التلفاز، هزيمة تليق بحياته البائسة وحياة أبنائه وجيرانه، يتقبل أوامر الحكومة بنفس خائفة، لن تغير الشعارات ما استقر فى النفوس من إحساس بالمهانة والذل، هنا نتربى فى بيت أهالينا على الخوف وندخل المدارس لنتعلم الخوف فى فصول مكدسة.
المواطن الصالح لا يهتم بالأرض، يهتم بالأرغفة وارتفاع ثمن علبة السجائر والأدوية، لكنه لن يتحرك أيضا، دوامة من المشاكل خلقتها الحكومة بتفانى وإخلاص ليغرق فيها المواطن دون اعتراض.
ليحيا المواطن وتسقط العدالة، ليحيا القولون ويسقط الأمل، لتحيا الحكومة والموت للمواطن.