د. نبيل القط يكتب: الوعي واللاوعي في "هذا المساء"

تستعرض الحلقات العشرة الأولى من مسلسل \”هذا المساء\” قطاعا رأسيا في الوعي الجمعي المصري؛ ويقوم بتشريح عضوي لهذا الوعي وبدقة جهاز أشعة مقطعية دون إعلان أو مزايدة أو شروح مستفيضة، مستخدما في ذلك تقنيات درامية خالصة.

يطال هذا التشريح القطاعات الثلاثة من الوعي الفرويدي، ولكن على المستوى الجمعي، وهي الوعي الظاهر والوعي الخفي (اللاوعي) والوعي الأعلى (السلطة – الضمير – الأخلاق – الكبت).

فالوعي الظاهر يتميز بالقدرة على التفكير المنطقي والهادف والخضوع لقوانين المكسب والخسارة والقدرة على حساب العواقب والحساسية للواقع، بينما اللاوعي فإنه يشير إلى عالم متناقض وغامض لا يخضع لقوانين المنطق المباشر، تحكمه الرغبات والمخاوف وتحركه الانفعالات القوية مثل الغضب والرغبة والغيرة والخوف والجنس.

أما الوعي الأعلى فهو يشير إلى النظم الصارمة السلطوية والتي تمارس الكبت على الوعيين السابقين مثل الدين والأخلاق والقوانين والخوف من العقاب.. إلخ.
دعونا نتعرف على قطاعات الوعي تلك واحدا واحدا من خلال تحليل الحلقات العشرة الاولى؛ ففي واجهة الصورة يظهر نمط الوعي الواعي والظاهر والمعلن في حياة وشخصيات وعلاقات رجال الأعمال والمال وأسرهم الرئيسيين، أكرم وزوجته نائلة ومديره هشام وأخته وزوجها وغيرهم.

 

طريقة الكلام وحركات الأجساد والملابس والتأني والتأنق المبالغ فيه وطبيعة العلاقات هنا واضحة وصارمة ومرتبة وتخضع لقوانين وأدوار معدة سلفا ليس فيها غموض أو تداخل، وهي شديدة الصرامة ولها من يراقبها كالصقر وتنطبق على الجميع وطبعا بدرجات متفاوتة، التأنق والشكليات سيدة الموقف والكبت هنا عام وخانق ولا يرحم، الخوف خفي وغير معلن ويمتزج بالقواعد والأخلاق، لقد تسلط الكبت حتى أزاح المشاعر والانفعالات التقليدية وكف الغرائز حتى أقواها وهي الغريزة الجنسية لدى أكرم وحوّله إلى روبوت، كما أنه حول المشاعر إلى شكليات كما رأينا في زيارة أكرم لبيت أخته.

تحت طبقة الوعي تلك وكما في اللاوعي الفرويدي توجد طبقة أخرى مفعمة بالحواس والروائح والشبق، حتى إنك تستطيع أن تلمسها بيديك وتشمها بأنفك في الحي الشعبي حيث عتمة اللاوعي وارتباكاتها وتناقضاتها، كم مرة رأيناهم يأكلون ويصرخون ويبكون ويضحكون ويهتاجون جنسيا؟

إنك تستطيع أن تشتم رائحة الطعام مع رائحة الغرائز والرغبات المتناثرة والخفية والملتوية وهي تطفو في أكثر أماكنها تجليا، في عتمة ضوء محل الموبايلات الخاص بسوني وترايكة وهما يتلصصان على أسرار النساء وعوالمهن الخفية والتلاعب بهن، هنا سوف تواجهك قسوة اللاوعي وغموضه وجنوحه وانفلاته مع ظواهر مثل خيانة الزوجات وضربهن، بل وسجن الأزواج والانتقام والخداع.

ومن شدة غموض اللاوعي فإنك وبعد عشرة حلقات كاملة لن تستطيع أن تدرك بدقة طبيعة العلاقات في هذا العالم المعتم، لن تعرف من أخو من ومن إبنة من، وذلك على عكس العالم الأول الذي يمكنك أن تدرك طبيعة العلاقات فيه بسهولة.
عالم اللاوعي هذا يتجسد في مكانين؛ المحل معتم الإضاءة حيث سوني وترايكة وإدارة العالم المظلم للهاكرز والدخول إلى العالم السري للناس واصطياد النساء بأسرارهن، والثاني هو السينما الأكثر إعتاما والتي تشبه في دهاليزها وضيقها وعشوائيتها (مين اللي بيشرب البيرة) لاوعي النفس البشرية، وهي منطقة اللذة والسكر والفككان والهروب من وطأة الوعي الأعلى المعترض والمؤنِب الذي يظهر ضعيفا ومترددا في سمير أو أبيه أو حتى عبلة، بل إن البنت الصغيرة تبدو أكثر منطقية من الباقين.

 

قطاع الوعي الثالث وهو الجد كامل أو الأب، المدير المتسلط والبعيد، والذي يرى العالم ويديره من خلال كاميرا. هذا الوعي خفيف وشفاف بشكل لا واقعي، لدرجة أنك لا تشعر به، يمكنك فقط أن ترى أثره على أجساد الناس وأصواتهم حين يتكلم.. إنه العين الحافظة والمتسلطة والحامية والكابتة في آن.

وحين نأتي إلى الشخصيات نجد أن أكرم (إياد نصار) يجسد لنا بحركته البندولية بين عالمي المسلسل مستويات الوعي الثلاثة تلك؛ فهو من ناحية ابن الطبقة المتوسطة التي اجتهدت بذراعها فصارت مهووسة بالنظام والنجاح تبعا لقواعد ذلك النظام، حتى إنه لا يتردد في إزاحة زميله ومديره بكل برود عندما يحين الوقت رغم عشرة السنين، وكذلك الانتماء لأسرة شكلية الطابع خالية من المشاعر؛ رفضت خطيبة ابنهم المنفلت لأنها تعيش معه، كما أنه يجد أمانه المطلق في أسرته الصغيرة ومع زوجته الجميلة حتى لو تفرغت علاقتهما من مضمونها تماما، لكنه يعيد اكتشاف رغباته في هوسه بالشعبي والتلقائي، حيث يبحث عما فقده من شهوة بصعوده الطبقي والتزامه الأخلاقي.

أكرم ذو الوعي المتردد والجبان والملتزم بمصالح أسياده حتى العظم، انكفأ على مشاعره فكبتها، ورغباته فنحاها جانبا حتى اختفت رغبته الجنسية مع اختفاء أي بصيرة بهذا لديه، وقد أظهرت حركة جسمه وصوته وانفعالاته كلها المكبوتة بشكل مذهل، ذلك الوعي.


نائلة بنت الأسرة الرأسمالية المتفككة والمضطربة لأب متسلط وذكوري وبعيد جدا يكاد صوته لا يظهر من كثرة رمزيته واستعلائه وأم قهرت سنين طويلة بوعي أمومي يرغب في حماية البنات حتى انفجر لاوعيها في علاقات متعددة وحياة منفلتة، فاختارت الابنة نائلة ربما لأنها الأكبر والأكثر تعقلا طريقا ثالثا أكثر أمنا وسلاما ترغب في الاستمرار فيه مهما كان الثمن، بينما لم تستطع أختها الصغرى القيام بذلك، فأخذت الصورة المتدهورة لتلك الأسرة ولم يكن لديها من قوة الوعي الكابت الذي يمكنه محاصرة كل تلك التناقضات.

 

سمير هو حلقة الوصل بين العالمين الأول والثاني، إنه اللاوعي مكبوتا بدافع الخوف من العقاب أو الخبرات السابقة المؤلمة، لقد فقد قدرته على التطلع ويعيش حالة حب عذري دون أمل مع زوجة أكرم ويختلي مع صديقه المراكبي الذي يمثل له وعيا أعلى أو ضميرا لينشدا الغناء الصوفي ويتناجيان معا، كما أنه يمارس أبوة كاذبة مع ابنة صديقه المسجون. إنه من ناحية يجذب أكرم إلى عالم اللاوعي المهترئ، ويحاول جاهدا من ناحية أخرى أن يسمو مع الغرائزي سوني لكبح انفلاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top