قبل مائة عام – يزيدُ قليلا- انطلقت مسيرة السينما السودانية، في مدينة \”الأبيض\” التي كانت وقتها قلب السودان الجغرافي قبل أن تتغير خارطة السودان في الأعوام الماضية إثر انفصال جنوب السودان عن شماله.
مسيرة متعثرة شهدت بعض إرهاصات الإشراق هنا وهناك، لكن انكفاءاتها وتراجعاتها ظلت الأغلب.
اليوم.. لا توجد دور عرض في السودان، سوى دارين تعرضان أفلاما تجارية من الهند ومصر، دون انتظام أو خيارات أخرى!
بدأت السينما السودانية بدايات القرن المنصرم عام 1912.. ذراعا إعلاميا لديوان الحاكم العام، مهمتها تدعيم بروباغاندا المستعمر والدولة، فكانت الأشرطة السينمائية تمتلئ بمشاهد الإنجازات الكولونياليه في البلاد.
بدايات:
إثر تكون \”وحدة الأفلام التسجيلية\” التابعة للحاكم العام، نمت السينما السودانية في كنف الدولة كنبات الظل، تقوم بمهام ترويجية تطورت قليلا لتتحول لمهام تثقيفية تحاول توعية السكان بقضايا صحية واقتصادية واجتماعية.
بعد الاستقلال، لم يصبح الحال أفضل مما هو عليه، إذ ظل الإنتاج السينمائي أسيرا لعلاقة الدولة بالسينما.. تلك العلاقة التي كان للدولة فيها دائماً اليد العليا.
بوادر الأزمة:
في هذا السياق بدأت جذور أزمة السينما السودانية التي لم تستطع فكاكا من هذه العناية والرعاية، إلى أن جاءت ما يمكن أن نسميه بالموجه الثانية في الستينيات والسبعينيات من سنوات القرن الماضي، والتي تميزت بسفر مجموعة مقدرة ومتميزة من الشباب السودانيين لدراسة السينما بمساقاتها المختلفة خارج السودان، في الاتحاد السوفييتي ورومانيا وسوريا ومصر وألمانيا الشرقية، حيث عادت هذه المجموعة إلى البلاد حاملة معها معارف وخبرات نوعية بالإضافة إلى أفلام تخرج، امتازت بحداثتها وخصوصيتها مثل أفلام \”جمل\” و\”حبل\” و\”المحطة\”.. الشاهد أن هذه الفئة لم تستطع- ولأسباب موضوعية- أن تؤسس لنفسها فضاءا إنتاجيا خارج إطار مؤسسات الدولة، بل وامتص العمل الوظيفي في أروقة وزارة الثقافة ومصالحها طاقة هؤلاء الفنانين وأبعدتهم عن فرص اجتراح وسائل جديدة ومراكمة تجربة قادرة على الصمود أمام توترات العلاقة مع الدولة في قارة بين حكامها وفنانيها ود مفقود، وغالبا ما لا يكون هناك استقرار سياسي حتى يكون نجمة هادية لطبيعة العلاقة تلك.
غياب:
ظلت طبيعة الإنتاج موسمية، كما أنه لم يحدث أي دفع بترسيخ قواعد أكاديمية للسينما طوال هذه السنوات الممتدة، فالناظر اليوم لا يجد حجرا لأساس كلية أو معهد سينمائي بالعاصمة الوطنية \”الخرطوم\”، وكأن ذلك لم يخطر لأحد على بال، وكان الإكتفاء بكليات للإعلام هنا وهناك تتناول في بعض أقسامها علوم الإعداد التلفزيوني وتدريس الدراما (من منظور مسرحي- لا سينمائي) في أغلب الأحوال.
غياب التراكم، والافتقار للبنية التحتية، وعدم وجود مراكز إمداد أكاديمية في الداخل، أبعد السودان من أن يكون بلدا صناعيا في المجال السينمائي.
إرهاصات:
سوى أن هذا لا يلغي الدور الذي لعبه أفراد من الفنانين السودانيين في محاولة الدفع بمجال السينما إلى حيز الحيوية، فمخرجين من أمثال جاد الله جباره والخير هاشم ومن بعدهم إبراهيم شداد وسليمان إبراهيم والطيب مهدي وناصر المك ووجدي كامل وحسين شريف وإبراهيم ملاسي وأنور هاشم، نشطوا في تسجيل بعض العلامات المضيئة في هذه المسيرة الطويلة المنهكة.
ومن أسف أنه بعد مرور عقود من الزمان على هذه المحاولات، لا نستطيع الحديث عن مدرسة سينمائية سودانية أو حتى هوية واضحة مثلما هو الحال في إيران أو تونس.
فالرغبة في الإنتاج السينمائي ظلت هما فرديا، لم يتجاوزه إلى العمل على إيجاد مشروع ثقافي متكامل يقوم على تكامل عناصر الإنتاج ونهضة فكرية وعملية في القلب منها مسألة الاستقلالية عن الدولة.
غياب مِهن، تأميم، وقطع حاد:
ربما نستطيع الإضافة إلى ذلك مسالة غياب \”المهن السينمائية\”، فكتابة السيناريو أو الإضاءة الاحترافية أو تصميم الديكور والأزياء ظلت طوال الوقت أشياء شديدة الثانوية، ولم تجد من يتصدى لها بالتطوير أو التفرغ.
لابد من الإشارة إلى أن فترة السبعينيات شهدت أشياءا قاصمة في مجال التطور الإنتاجي، إذ أن عودة الأفراد الذين درسوا السينما خارج السودان صادفها قرارات بتأميم دور العرض وشركات التوزيع واحتكار الدولة للمجال السينمائي، وهو ما أدى إلى ضمور حقيقي في قوة الدفع التي كان لها أن تتحقق بعودة الكادر البشري المؤهل لو توفرت له فضاءات من العمل الحر والإنتاج من خلال الضخ برؤوس الأموال الوطنية في هذه العملية.
ظلت السينما السودانية تعاني من ضيق في التنفس لفترات طويلة، عانت فيها من لفظ الدولة لها وتجفيف مواردها إلى أن جاءت التسعينيات لتشهد قطيعة كاملة وصارمة تمثلت في تفتيت مؤسسة الدولة للسينما والتي كانت الجسم الوحيد الذي يعمل بشكل مؤسسي على الإنتاج واستيراد الأفلام وتنظيم العروض.
تخلي الدولة عن دعم الفنانين السينمائيين بعد عقود طويلة من البداية الأولى أوئل القرن، ما كان يجب أن يكون طامة كبرى لو كان فنانينا أصحاب قوام فكري وإنتاجي مستقل، ربما كانوا كلهم يعتزون باستقلاليتهم الفكرية، لكن عدم الاستقلال الإنتاجي اللوئ المستمر بجوار الدوله أو السلطة – أو كليهما معا- جعل إمكانية المقاومة ضعيفة والبنية التراكمية شديدة الهشاشة، وما حدث في التسعينيات لم يكن نسفا للسينما – كما يقال تباكيا- إنما السينما السودانية تعاني منذ السبعينيات، منذ ذاك اليوم الذي كان فيه سؤال الاستقلالية وخلق مناخ عام، معزز بالإنتاج والدراسة المحلية، مطروحا باحثا عن إجابة.
في هذا الخضم العصيب، لابد لنا من الإشارة إلى تجربة المخرج \”حسين شريف\” (1934- 2005)، والذي ظل حتى اليوم الأخير في حياته يعمل بشكل دؤوب على إنتاج أفلامه، خارج إطار الدولة معززا استقلاليته، فبعد أن عمل شريف محاضرا للفنون الجميلة في ستينيات القرن الماضي، اتجه إلى دراسة السينما بلندن، وقام بإخراج فيلمه العلامة الموسوم بانتزاع الكهرمان في منتصف السبعينيات بإنتاج من مصلحة الثقافة السودانية، لكنه ما لبث أن عمل على إيجاد صيغ إنتاجية بديلة مكنته من إنتاج وإخراج عدة أفلام مثل \”النمور أجمل\” و\”ليست مياه القمر\” و\”جدع النار\” و\”من مفكرة الهجرة\”.. إنها شاهد على منهج تفكير حسين شريف المستقل، من حيث مواضيعها وطريقة كتابة سيناريوهاتها التي نشرت كلها أو بعضها في عدة دوريات ثقافية بعد وفاته.
كذلك محاولات الأستاذ جاد الله جبارة في بناء مساق تجاري للسينما السوداني وإنشاء ستوديو خاص اهتم بتوفير الأجهزة له منذ وقت مبكر، بالإضافة إلى عمله على الإنتاج حتى بعد أن فقد بصر آخر سنوات حياته.
وربما كان فيلمه \”بركة الشيخ\” 1998، هو النقلة الأخيرة في لعبة المربعات التي أفضت إلى نهاية عصر الشريط وسطوع الشمس الرقمية في السودان!
سينما جديدة؟
اليوم.. فإننا حينما نحاول الحديث عن سينما سودانية معاصرة، فيجدر أن نتحدث عن موجة السينما الجديدة، وهي السينما التي نمت على أكتاف التحول التقني ودخول الصيغة الرقمية أو الديجيتال في المعادلة الإنتاجية.
هذا التحول ساعد على إضفاء حماس جديد وإحياء النار الكامنة تحت رماد السنوات الكئيبة الطوال؛ فإن كان السودان قد خرج من السوق وانفصل عن الشبكة العامة للإنتاج السينمائي لسنوات وسنوات، فإنه اليوم يشهد حراكا لا بأس به، مراده إعادة الاعتبار للسينما وثقافتها، حيث تعمل مجموعات عديدة من الشباب على إحياء صيغ للإنتاج وتفعيل أساليب أهلية للتعلم، من بينها تجربة \”سودان فيلم فاكتوري\” التي نشطت منذ العام 2010 على فتح الفرص للشباب للتعلم عبر استضافة خبراء ومدربين من سوريا والعراق ومصر وألمانيا والسودان نفسه، في سلسلة من العمليات الجريئة التي أدت إلى إعادة حلم السينما إلى حيز المشهد الثقافي العام في السودان، وقد دشنت \”سودان فيلم فاكتوري\” مجموعة قوية من المشاركات في المهرجانات والفعاليات الإقليمية والدولية، لكن والأمر كذلك، لا نستطيع أن نقول إن التجربة ناضجة تمام النضج، فما زال ينقصها الكثير من المعايير الاحترافية والقدرات المؤسسية، وهي أشياء ترتبط بشكل تفاعلي مطرد مع توفر التمويل والبراح القانوني في بلد يعاني الكثير من حساسيات مختلفة أقعدت، ولاتزال، الطموح اللازم لمثل هذه الصناعة.
وجود واعتماد المخرجين الشباب السودانيين اليوم على المجتمع المفتوح وصناديق الدعم المنتشرة حول العالم، وتوفر فرص الإنتاج المختلفة، لا يمنع وجود تحديات أكبر من مسألة المال، فمسألة أن يهتم الفنان السينمائي بصون استقلاله كمخرج محترف، ووضع مسافة واضحة بينه وبين الدولة والسينما التجارية، أمر حاسم في هذه المرحلة. كما أنه من الضروري بمكان أن تؤسس هذه الجماعات الشابة الطموحة لنفسها قاعدة اجتماعية وتوثق ارتباطها بالطبقة الوسطى وبالقضايا الاجتماعية لتدعيم هذه التجارب المستقلة وتحويلها من إرهاصات جديدة إلى حركة تحمل في داخلها قوتها المفاهيمية ورؤاها الفنية التي تستطيع أن تصوغ هوية بصرية سودانية في المستقبل.
السينمائيون من الاجيال المختلفة الموجودن اليوم في الخرطوم عليهم أن يلعبوا مباراة جيدة، ليس في مواجهة بعضهم لبعض، إنما كفريق واحد يستهدف ذات المرمى.. فريق يعرف أن يتبادل المواقع بسلاسة وأن يسند ويصنع ألعابا تعجب الناس ويحفظها التاريخ!
___________________
طلال عفيفي، مؤسس ومدير سودان فلم فاكتوري ورئيس مهرجان السودان للسينما المستقلة