تلعب الثقافة والفنون كلاهما دورا هاما بل جوهريا فى تنشئة أجيال ومجتمعات على درجة عالية من التقدم العلمى والرقى الفكرى. وتكمن أهمية الفنون فى إشباع الرغبات الروحية: فالفنون هى إفراز لثقافة المجتمع، ومن ثم فإن ثقافة المجتمع هى صورة عكسية أو مرآة لهذه الفنون. وعليه فإنه يجب غرس حب الثقافة والفنون فى المجتمع بصفة عامة وفى الطفل بصفة خاصة، حيث إن التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر. لذلك يتحتم على المجتمعات جميعها أن تسعى لنشر ثقافة القراءة والإطلاع بين الأفراد، لا سيما الأطفال، وتشجيعهم عليهما منذ نعومة أظفارهم وذلك عن طريق قراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام التسجيلية والوثائقية أو حضور الندوات أو الاطلاع على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى. فالثقافة غذاء للروح والعقل ولها فضل عظيم؛ إذ أنها تعمل على توسيع المدارك وإصقال المعرفة مما يسهم فى تكوين فرد واع ذو فكر متطور وبناء غير مؤمن بالمسلمات. فضلا عن ذلك، تسهم الثقافة فى نشر ثقافة الحوار، أو بعبارات أخرى تقبل الرأى والرأى الآخر: فيكون الفرد المثقف على يقين أن \”اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية\” وأن الحرية الفكرية حق مكتسب لا يمكن لأحد أن يسلبه إياه شرط أن تكون تلك الحرية قائمة على تفكير علمى سليم لا على الفوضى.
والجدير بالذكر أن الثقافة تمثل ركيزة أساسية لقصص النجاح بعد الكوارث:
خير مثال على ذلك دولة اليابان التى اتخذت من الثقافة والفنون سلاحا سلميًا تصنع به النجاح تلو الآخر بطريقة عجيبة وفريدة. إذ استطاع اليابان، بفضل الثقافة، أن يبنى نفسه بعد أن ألقيت عليه قنبلتين نوويتين: فها هى دولة اليابان تهتم بالقراءة وذلك بإطلاق شعار \”القراءة فى كل زمان ومكان\” وقد اعتبر اليابان الاستثمار فى هذا المجال أحد أهم أولوياته فأصبح قوة عظمى تحذو حذوها جميع دول العالم.
وعليك أن تتأمل عزيزى القاريء أين أصبح اليابان الآن بفضل شعبه المؤمن بالثقافة والفنون، فوفقا لأحدث الدراسات والإحصائيات العالمية يحتل اليابان اليوم ثالث أفضل نظام تعليم أساسي عالميا بتعداد نقطى بلغ 99.9 نقطة كما تمتلك دولة اليابان بمفردها 57 شركة فى نادى الـ 500 شركة الأغنى والأكبر على سطح الأرض. كما ينفق اليابان على البحث العلمى والتقنى ما يزيد عن 150 مليار دولار سنويا بالإضافة إلى احتلالها المركز الرابع عالميا كأفضل بيئة فنية ملائمة للابتكار.
الآن يأتى دور الفنون حيث إنها وليدة الثقافة. والفن لا يعنى فقط الإحساس بالجمال ولكنه يسهم بشكل واضح فى إعلاء قيم الأخلاق والفضيلة والعمل الجاد وقيمة العلم والدفاع عن الوطن إلى غير ذلك من القيم التى تعد عصب نجاح وتطور أى مجتمع. وعلى ذلك تأتى الفنون بكل ما تحمله من إبداع كتطبيق ملموس للثقافة علما بأن كل فن يحمل دائما نورا إلى الآخر، فالرسم والنحت والنقش والمسرح والموسيقى والرقص والأدب وغيرها من أنواع الفنون من شأنها أن تأخذ الإنسان إلى عالم راق تقطنه كل معانى الحب والسلام والتسامح فتجعل منه كيانا متحضرا نابذا لشتى أشكال العنف والكراهية والتعصب والعنصرية والزينوفوبيا.. تلك المفاهيم التى باتت، مع الأسف الشديد، جزءا من حياتنا اليومية.
وتأتى التجربة الألمانية كخير شاهد على دور الفنون فى تطور الشعوب وتقدمها. فعندما تمت إعادة برمجة الألمان -بعد الحرب العالمية الثانية من قبل الأمريكان- إذا كانت أمريكا تؤمن أن \”كل ألمانى نازى\”، تم اللجوء للفن وذلك عن طريق أفلام محتواها التسامح والأخوة من بينها فيلم \”كل البشر أخوة\” والذي يظهر فيه أحد الألمان كما لو كان طفلا تعلم بعد عمر طويل أن الشعوب مختلفة وأنهم يجب أن يعيشوا معا.
واليوم وبعد مرور عقود كثيرة، ها هى ألمانيا وعاصمتها برلين تعد نموذجا مثاليا لحاضرة ثقافية متعددة الجنسيات، فمن بين 3، 4 مليون شخص يعيشون فيها، هناك عدد كبير من الفنانين والكتاب والموسيقيين الذين يساهمون فى إضفاء اتجاهات متنوعة على أجواء برلين الإبداعية الشهيرة.
من هذا المنطلق، واقتداء بتلك النماذج المتقدمة وإيمانا منا بذلك الدور المؤثر -السابق ذكره- للثقافة والفنون نناشد المجتمعات العالمية عامة والعربية خاصة، وأخص بالذكر، بلدى الحبيب مصر -تلك الأرض التي كانت مهدا للثقافة والفنون على مر العصور- بالمبادرة فى توعية أفرادها بأهمية الثقافة والفنون وذلك عن طريق الاهتمام بقصور الثقافة ومراكز الإبداع ودور الأوبرا ومراكز الشباب والمكتبات وتشجيع المواهب الفنية فى المدارس والجامعات دون تمييز، فالفن لابد وألا يكون حكرا على الطبقات الراقية؛ الطبقات الوسطى والفقيرة التى تعانى من الفقر والجهل فى أمس الحاجة لهذه المبادرة.
ولكن يؤسفني القول إننا كثيرا ما نتحدث ونتقن فن الكلام بينما لا تحتاج مجتمعاتنا إلى مزيد من الكلمات بل لمزيد من الأفعال.
كفانا تفاخرا بالماضى ولنسعى لخلق حاضر ومستقبل راقٍ ذي نهضة، نفخر به وتفخر به أجيالنا القادمة التى ستكون كوادر قادرة على قيادة تلك النهضة!
ولكن انتبه عزيزى القاريء: إعادة هيكلة المجتمعات بإدراج الثقافة والفنون ضمن معتقداتها ليس بالأمر السهل على الإطلاق. فقد يتطلب ذلك عدة سنوات إن لم يستمر الأمر عقودا أو قرونا. وعلى الرغم من ذلك مجرد البدء فى تنفيذ تلك المبادرة سيشعرنا بتقدم ملحوظ ولو بخطوات صغيرة.
نحتاج إذا إلى تضافر جهود كل مؤسسات الدولة للنهوض ببلادنا ثقافيا وفنيا.
فإذا أردت مجتمعا راقيًا خاليا من الإرهاب، فعليك بتأسيس مدينة فاضلة من الثقافة والفنون، ومتى غرست بذور الثقافة والفنون، حصدت مجتمعا لا يشوبه الجهل، قادر على مواكبة تحديات العصر الحالى.
ولا يسعنى سوى أن أختتم مقالى هذا ببيت لأحد الشعراء عندما مدح الفنون وحث على الاهتمام بها قائلا:
\”الفن إشراق الحياة ورفقها
وذوو الفنون ملائكة أبرار
إن الزهور من التراب مثارة
والفن من نفس الجمال مثار
لا تهملوا أمر الفنون فإنها لنهوضنا ورقينا معيار\”