حين كنت طالبة بالصف الثانوي أرغمني والدي على دخول قسم العلمي علوم، حاولت إقناعهم لفترة ليست بالقليلة، حاولت أن أشرح لهم كم أجد من صعوبة في استذكار دروس الكيمياء والأحياء والفيزياء، وفي رغبتي في الدخول بقسم الأدبي حيث إنه ملائم أكثر لإمكانياتي ولكن ما من منصت لشكوتي. زجوا بي زجا فيما لا يجد بروحي طاقة أو شغفا، وكنت أستسلم حينا وأتمرد حينا آخر. انتهت المعركة بالتحاقي بكلية الإعلام قسم الصحافة، ومن وقتها وأنا لا أسمع سوى كلمات قليلة تثبط من إرادتي في أن أصبح كاتبة.
\”خليك جاموسة في وسط البهايم، إوعى تفتكر إنك لما تتعلم زيادة هتبقي أسعد، وخدها مني قاعدة، كل ما هتتعلم وتفهم زيادة، كل ما هتتعذب وتتألم زيادة\”
في أي شيء برأيك تتمثل دوائر السلطة؟
قد تتمثل في المجتمع، قد تتمثل في المال، في الجسد. وقد يكون في الدين.
فيلم بالألوان الطبيعية إنتاج 2009 تأليف هاني فوزي وإخراج أسامة فوزي. تدور أحداث الفيلم حول طالب ثانوي طالما طمح في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، ولكن أمه كانت تضغط عليه لتلقي به في طب بشري. وهذا النزاع موضوعي وحقيقي ويحدث كل يوم عشرات المرات، فلا الأهالي يستسلمون ولا الأولاد يخضعون. عذرا أقصد معظم الأولاد يستسلمون إلا القليل الصادق منهم. فالمجتمع ينادي ويطالب ويدفع بالالتحاق بأي من هندسة أو طب، هذه الكليات التي وضعنا لها ملامحها الفيزيقية وكيانها الفعلي في إعطاء وجاهة اجتماعية مزيفة. والمجتمع تمثل في دور الأم التي أدته الفنانة (انتصار)، حيث إنها كانت أم لحوحة باكية شاكية متطلبة، دائما ما تبحث في ابنها عما فقدته أو ما تتخيل أنها فقدته. حيث إن المخرج برع في تصوير أمه –المجتمع- بفحيح الثعبان الذي لا يكف عن الظهور المباغت الملفع بالذعر فيترك دائما من خلفه رواسب الوساوس والشعور بالذنب القابع في القلب الذي ظن أنه ضل طريق الصواب. فالمجتمع أخطر دوائر السلطة وأقوى محرك.
\”الناس عايزة فن فيه ريحة الدين، الجمهور خلاص طفش من الفن الـ مش مفهوم سريالي وتجريدي أو حتى الرسم العاري، بذمتك مين النهارده هيحط في بيته موديل عريان، ده حتى الناس تقول عليه وسخ وتبطل تزوره، لكن لما نعمل آيات قرآنية ومآذن فده فن نضيف يجذب الأسرة المصرية المحافظة والجمهور العربي\”
الدين والفن قطبان متنافران دائما وأبدا، ولن تنتهي المعركة فيما بينهما طالما نحن مصرون على التمسك بالقشرة الخادعة من الدين الظاهري.
الفيلم عرض فكرة شائكة وهي رسم \”الموديل العاري\” في كلية الفنون الجميلة وتحريمها ومنعها من الكلية، وصور نزاعا حيا داميا بين الطرفين. فبالأساس \”الموديل العاري\” هو عبارة عن رسم أو نحت موديل سواء كان ذكرا أو أنثى عاري/عارية يجلس أمامك ويتقاضى على عمله بالساعة. وكان ذلك الفن في مصر منذ عام 1908 التي تأسست فيها مدرسة لتعليم الفنون الجميلة في عهد الأمير يوسف كمال باشا وهو من عائلة علي باشا، ثم تم ضمها لوزارة التعليم العالي سنة 1961، وكان أول موديل عاري هما الأخوان عبد العزيز وعبد الوهاب هيكل اللذان شاركا في بناء كلية الفنون الجميلة، ولجأوا إلى وظيفة \”الموديل العاري\” لرفع دخلهما المادي. وبدخول عصر الانفتاح في أوساط السبعينيات وانتشار الجماعات الإسلامية تم منع \”الموديل العاري\” دون أي قرار حكومي أو إداري.
يمكنك رؤية تمثال نفرتيتي وهي عارية في تل العمارنة، وتمثال أخت عنخ أمون في متحف ملوي بالمنيا وتظهر الجماعات التكفيرية على الصعيد الآخر لتسب وتلعن هذه التماثيل وتصنفها على أنها أوثان.
عرض الفيلم انشطار كتلة الطلاب إلى جيش الدين والتقوى الذي يشهر سيفه بوجه العدو اللدود (الفن) مما يصيبك بالإحباط لأن هذا النزاع غير المبرر حقيقي ويحدث بالفعل، بينما تتخفى الفئة الثالثة الشبيهة بالديدان العفنة عابثة بجثث الموتى لتربح المواقف الخاسرة فيوظفون فنهم لتدعيم القشرة الدينية المتهاوية لحصد رضا ومال المجتمع الراقي. فنحن لا نملك ذوقا خاصا فلجأنا إلى الدين ليشكل لنا الذوق العام ولن نختلف بالطبع على أن ديننا الحنيف دين يسر وليس عسر.
دائرة سلطة الدين تتقاطع مع المال.
وبالجسد تكتمل دائرة السلطة، حيث تظهر إحدى معيدات كلية الفنون الجميلة التي تستخدم جسدها وأنوثتها في التدرج إلى المناصب العلمية الرفيعة على الرغم من موهبتها وكفاءتها الضنينة. فيؤكد علينا المخرج ويلح بوجود علاقة قائمة علي المنفعة المتبادلة فيما بين الطرفين.
والجدير بالذكر، بأنني أجتهدت في البحث لأتوصل إلى نوع هذا الفيلم فلم أعثر على شيء، ولكنني أعتبره فيلم دراما /فانتازيا.
\”أنا عايش ليه؟ وأنت عايش ليه؟ ولما هنموت هنروح فين؟ إيه معنى حياتنا؟ أنا عايش في عالم كامل من عدم اليقين، مش مؤكد، مش واضح\”
فيلم \”بالألوان الطبيعية\” يعد وجبة فنية دسمة، يغريك للتعمق والتفكير وتحليل كل أبعاده الدرامية كما أنه قد يلفت انتباهك فكرة تصوير بعض المشاهد من زاوية عالية مما يضفي على بعض اللقطات تفكيرا متشعبا حول تهميش هؤلاء الشباب الموهبون وبأن آرائهم وميولهم غير محصنة ضد نقد المجتمع اللاذع وأنهم تائهون في الكون يبحثون عن ذاتهم الجوعى المهملة.