(1)
في أربعينيات القرن العشرين وضع عالم الفيزياء الألماني ألبرت اينشتاين تعريفه الشهير للغباء بأنه \”فعل نفس الشئ مرتين بنفس الاسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة\”
(2)
الأقلية المسيحية القبطية ستُدرج قريبًا في كتب علم النفس على أنهم study case منفردة بذاتها لا تقبل المنافسة، باعتبارهم الأقلية الأكثر غباءًا في العالم، فمشكلة المسيحيين الكبرى هي إصرارهم العجيب وغير المبرر على فعل الأمر ذاته، الذي فشل في السابق، بنفس الأسلوب ونفس الخطوات، ثم يتعجبون لِمَ لم يفلح تلك المرة أيضًا؟
كل فئات الشعب تقريبًا، بداية من العلمانيين المصريين الذين كانوا من أشد الداعمين له في البداية، مرورًا برجل الشارع البسيط الذي لا يبحث إلا عن قوت يومه ثم الأمان، وانتهاءًا بمؤيدي السيسي أنفسهم في الدولة والإعلام، أدركوا الآن كم كانوا مخطئين عندما راهنوا عليه باعتباره المخلص والمنقذ من مد الإسلام السياسي، وحالة الاقتصاد المتردي، والإرهاب الرابض على الحدود.
الجميع أدرك كم كان مخطئًا في دعمه للرجل، إلا المسيحيين. لا يزالوا على نفس تأييدهم السابق بل وربما أكثر من السابق، ولا يزالوا يعتقدون أن السيسي هو المنقذ والمخلص والبطل وحامي الحمى!
(3)
مشكلة المسيحيين الكبرى خلال العقود الستة الأخيرة أن استيعابهم للسياسة في العموم يأتي متأخرا للغاية عن أي فئة أخرى من فئات الشعب.
ففي الأيام الأخيرة قبل تنحي مبارك، عندما أيقن كل المنافقين والمداهنين والمراوغين أن مبارك راحل لا محالة، قفزوا من السفينة الغارقة وأنقلبوا عليه، إلا فئة واحدة أصرت على موقفها الوفي حتى النفس الأخير وأبت أن تنقلب على الرجل، هي الكنيسة المصرية ورأسها البابا شنودة، الذي ظل على دعمه لمبارك حتى الأربعاء 9 فبراير 2011، وأكد ذلك في مداخلته على التليفزيون المصري، بإصرار منقطع النظير على الرهان دائمًا وأبدًا على الحصان الخاسر، ليؤكد أنه قد اتصل بالرئيس مبارك، ليشكره ويحييه ويقول له \”إننا كلنا معه، والشعب كل معه\”، وبعد يومين كان الرجل يتنحى عن الحكم تاركًا الكنيسة ورأسها في موقف بالغ الإحراج!
وبكل صفاقة الدنيا وبعد أربعة أيام فقط من تنحي هذا الأخير، كانت الكنيسة المصرية تغير من موقفها 180 درجة متأخرة كالعادة، وتصدر بيانها الرسمي في 15 فبراير 2011 ممهورًا بتوقيع البابا شنودة الثالث لـ \”تحيي شباب مصر النزيه، شباب 25 يناير، الذى قاد مصر فى ثورة قوية بيضاء، وبذل فى سبيل ذلك دماء غالية.. دماء شهداء الوطن\”!
(4)
في صيف 2005، وبالتزامن مع نهضة حركة المعارضة الوطنية المصرية من غيوبتها العميقة على استحياء، كطائر العنقاء الذي يُبعث حيًا من جديد من تحت الرماد، وكمحاولة يائسة من بعض الإصلاحيين داخل الكنيسة القبطية المصرية العجوز لدفعها للتصابي والخروج من حالة التقوقع والتصلب التي لازمتها لسنوات، أسست أسقفية الشباب في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية \”لجنة المشاركة الوطنية\”، والتى اهتمت بنشر الوعى السياسى البسيط بين شباب الأقباط، وكانت تدعو بعض النخب والرموز السياسية والثقافية لإلقاء بعض المحاضرات السياسية، منهم د. سيد القمنى، م. نجيب ساويرس، والمفكر طارق حجى وغيرهم.
في الاجتماع الأسبوعي للجنة كان الحديث يدور حول ضرورة حيادية المؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة في العمل السياسي، والتأكيد على أن دورهم -إن كان لهم دور أصلًا في السياسة- يقتصر على نشر الوعى السياسي فقط وليس التوجيه، واستشهد المسئول عن اللجنة، للتأكيد على حيادية الكنيسة القبطية، بسلوك بطريرك الكنيسة ورأسها البابا شنودة الثالث، الذي رفض أن يدلي بصوته لصالح \”حبيبه وابن حبيبه منير فخرى عبد النور مرشح مجلس الشعب عن دايرة الوايلى\” في الانتخابات البرلمانية السابقة عام 2000 -بحسب نص كلماته- حتى لا ينساق الشعب وراء اختيار البابا، ولا حتى يؤثر على اختياراتهم وتوجهاتهم السياسية.
بعد الاجتماع بعدة أيام، نشرت مجلة الكرازة المرقسية -المجلة الرسمية للكنيسة القبطية المصرية- خطاب التأييد الذى أرسله المجمع المقدس للكنيسة القبطية بقيادة البابا شنودة للرئيس مبارك وقال فيه: \”البابا شنودة ومطارنة وأساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يسعدهم استمرارية الرئيس حسنى مبارك في رئاسته لمصر، لما يرونه فيه من حكمة سياسية وسماحة وخبرة عميقة بإدارة شئون البلاد، لذلك يناشدونه الاستجابة لرغبة الجماهير بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية لدورة تالية والكل يحبونه ويؤيدونه\”، وثارت ثائرة النخبة السياسية القبطية جراء موقف الكنيسة المخزي.
الاجتماع التالي للجنة المواطنة كان أشبه بمظاهرة صغيرة داخل تلك القاعة بمبنى الخدمات بأسقفية الشباب، فالجميع تقريبًا بلا استثناء ساخطين على تصرف بابا الكنيسة ورأسها، اما مسئول اللجنة نفسه الذى تحدث في الأسبوع السابق عن ضرورة حياد الكنيسة وعدم تدخلها في السياسة، انقلب موقفه 180 درجة، واستفاض مبررًا تصرف البابا شنودة بأعذار واهية مضحكة، مؤكدًا على ضرورة تأييد الكنيسة للزعيم القائد وبطل الحرب والسلام الرئيس محمد حسنى مبارك خوفًا من وصول الإخوان المسلمين للحكم، والتأكيد على أن النظام المباركى هو حامي الدولة المدنية، فأجابه المهندس يوسف سيدهم رئيس تحرير جريدة وطنى قائلًا: \”إننا قد شعرنا بغبن شديد تجاه موقف الكنيسة وما فعله قداسة البابا\” بحسب نص كلماته، وبعد أقل من شهرين، كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تدفع أبناءها المسيحيين -في شاحنات- دفعًا لإعادة انتخاب مبارك في الانتخابات الرئاسية.
في نفس الوقت كان د. نصر حامد أبو زيد يحذر في مقاله الشهير \”سقوط التنوير الحكومي\” فى مجلة أخبار الأدب، من مغبة الاعتقاد، أن النظام المباركى هو حامى الدولة المدنية، مؤكدًا أن نظام مبارك الديكتاتورى العسكرى لا يقل بشاعة عن أى نظام حكم دينى، بل إن هذا النظام هو الذى يذكي تواجد التيار الديني فى مصر ويدعمهم فى الخفاء، حتى يظهر بصورة الوحيد القادر على حماية الدولة المدنية من نيرانهم، قائلًا:
\”صار ما أسهل أن يسمع الإنسان من بعض المثقفين الذين ينسبون للفكر والمفكرين من يقول أن نار النظم العسكرية المستبدة أرحم من جنة دعاة الدولة الإسلامية، بل بالغ البعض إلى حد الذهاب بأن حذاء العسكر علي الرأس أفضل من عمامة المتأسلمين.
كان واضحا أن عددًا لا يستهان به من مثقفينا يرى أن نار هذا النظام أفصل ألف مرة من جنة الإسلاميين، وكان هذا المنطق مخالفًا لقناعاتي التي رسختها دراستي التحليلية للخطاب الديني، المعتدل والمتطرف، والتي لم تجد فارقا بينهما من جهة، ولم تجد فارقا بين كليهما وبين الخطاب السياسي في الجمهوريات الثلاث في جهة أخرى، إن النظام ليس مدنيًا، بل هو نظام عسكري ديكتاتوري لا يقل بشاعة في الحقيقة عن أي نظام ثيوقراطي.
كان اليأس العام هو الذي أوهم المثقفين أن التحالف مع السلطان سيحمي حقوقهم ويمكنهم من الدفاع عن حرياتهم ومصالحهم المهدرة\”
(5)
لم يتعلم الأقباط درسًا من مقال أبو زيد، وربما لم يقرأوها أصلًا، فعلى مدى تاريخ الدولة المصرية الحديثة، دأب مسيحيو مصر على الالتفاف حول صاحب اليد العليا في البلاد وتأييده، والاحتفاء والتهليل للمظالم التي يقوم بها، أملًا في عدالة ومساواة مفقودة، هم أول من يدرك أنها لم ولن تتحقق على يده.
ففي الخمسينيات من القرن الماضي ساندت الكنيسة القبطية عبد الناصر في المجمل بالرغم من ديكتاتوريته وفاشيته، ودولة الخوف التي أسسها في ربوع البلاد، أملًا في أن يحن قلبه عليهم ببعض المساواة والمواطنة، حتى إنها ساندت عبد الناصر في التنكيل بأقلية طائفية دينية مماثلة مثل طائفة \”شهود يهوة\”، عندما أصدر ناصر قرارًا جمهوريًا بإغلاق كنائسهم عام 1959، ومنع بناء أي كنائس أخرى لهم، وقبض على المئات من أتباع الطائفة ووضعوا في المعتقلات بدون تهم أو تحقيقات، فوقفت الكنيسة القبطية تصفق وتهلل لقرار الزعيم الخالد!
وفي بداية عهد السادات ساندت الكنيسة رأس الدولة، وكانت العلاقة بينه وبين البابا شنودة جيدة للغاية، وساندوه في صراعه مع الناصريين ومراكز القوى، حتى إنه ضاعف من عدد الكنائس المسموح ببنائها سنويًا في عهد سلفه من 25 كنيسة إلى 50 كنيسة سنويًا، وبدلًا من أن يرد لهم الجميل كما كانوا يتوقعون، كالمعتاد نكّل بهم وانقلب عليهم في نهاية المسرحية ووضع البابا قيد التحفظ في وادي النطرون حتى أغُتيل السادات نفسه في حادث المنصة الشهير.
ومع بداية عهد مبارك، سارت الكنيسة ومن خلفها الشعب القبطي على النهج ذاته، وكأنهم خلعوا عقولهم، وأيدت الكنيسة مبارك في مدده الرئاسية الخمس، ودعمته بكل قوة حتى بعد أن ثار الشعب عليه ونادى بخلعه، ورغم ذلك فقد عانى الأقباط الأمرين في عهده، وتنامت قوى التيار الإسلامي بشكل غير مسبق وتنوعت فصائلهم ما بين إخوان مسلمين وما بين سلفيين وجماعات إسلامية، في نفس الوقت الذي كان مبارك نفسه يؤكد أن وجوده هو صمام الأمان حتى لا يصل هؤلاء إلى الحكم، وعانى الأقباط من الاضطهاد الطائفي الممنهج من قبل الدولة قبل أن يكون من قبل الأفراد في عهد المخلوع، إلا أنهم ظلوا على تأييدهم غير المشروط له أملًا في المساواة والمواطنة المفقودة، والتي لم تتقدم أيضًا خطوة واحدة إلى الأمام في عهده كالمعتاد.
ورحل مبارك غير مأسوف على أمره، وأتى المجلس العسكري، وسحق الأقباط حرفيًا تحت جنازير مدرعاته، ثم رحب بهم البابا شنودة بحفاوة بالغة بعد أقل من ثلاثة أشهر من حادثة ماسبيرو الشهير، لحضور قداس عيد الميلاد المجيد، ورحب بهم وأشاد بدورهم في قيادة البلاد.
وحتى في عهد الإخوان المسلمين، وقبل زيارة مرسي الأولى إلى أمريكا في سبتمبر 2012 بعد توليه رئيسًا، أعلنت الكنيسة القبطية أنها تنسق لنجاح زيارة الرئيس مرسي لأمريكا، والأنبا ديفيد أسقف نيويورك ونيو إنجلاند يقوم بعقد اجتماعات لتنسيق زيارة الرئيس، وعندما انقلبت الدولة العميقة عليه، كانت الكنيسة أول من يدعم مظاهرات 30 يونيو ويشارك رأسها البابا تواضروس في بيان خلع مرسي
وبعد الفض الوحشي من قبل قوات الأمن لاعتصامي رابعة والنهضة في 14 أغسطس 2013، وعلى مدى أربعة أيام كاملة من 14 وحتى 18 أغسطس 2013 اعتدى الإخوان ومؤيدوهم على ما يزيد عن مائة كنيسة، إضافة إلى المئات من حالات الاعتداء المنفصلة على مؤسسات وممتلكات ومنقولات خاصة بالأقباط، وبدلًا من أن ينادي الأقباط بحساب المسئولين عن اتخاذ قرار الفض بدون تأمين المنشآت المسيحية المُتوقع الاعتداء عليها، خاصة بعد مشاركة البابا تواضروس في خطاب عزل مرسي، وهذا التقصير الأمني الفادح الذي يصل إلى حد التواطؤ المتعمد -إن لم يكن متعمدًا بالفعل- وعن هذا التغافل المقصود عن حساب المعتدين والمجرمين ذوي الوجوه المعروفة، والذين ظهروا في بعض مقاطع الاعتداءات المصورة، عرجوا ناحية تبرير تقصير النظام كحيلة نفسية يلجأ إليها العقل اللاواعي تسمى بالإنكار، ووقفوا يهللون لقرار السيد الرئيس وهو يلقي لهم بالفتات ويعد ببناء الكنائس المتهدمة، وفي الانتخابات الرئاسية التالية شارك الأقباط بقوة ناحية إنتخاب رئيس عسكري مرة أخرى رئيسًا للبلاد، أملًا في المساواة والعدالة المفقودة وكأنهم لا يتعلمون من أخطاء الماضي ولا يقرأون التاريخ، ليكرروه بغباء منقطع النظير.
(6)
في العام 1973، تنبأ د. فرج فودة في كتابه الأسطوري \”حتى لا يكون كلامًا فى الهواء\” عن المستقبل، محذرًا من مغبة الولوج في الدائرة المفرغة والتأرجح ما بين ضفتي الحكم الديني والعسكري قائلًا: \”هنا تبدأ الدائرة المفرغة فى دورتها المفزعة. ففى غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدى الحكم العسكري إلى السلطة الدينية، ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الإنقلاب العسكري، الذى يُسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر، إلى سلطة دينية جديدة وهكذا، وأحيانًا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري، كما حدث ويحدث فى السودان.
الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ضرورة.
والتواصل مع الشرعية الدستورية، مسألة حياة أو موت.
والشرعية الدستورية لا تتسع لهذا أو لذاك، فكلاهما خطر عليها، ومدمر لها، والذى يُفضل أحد البديلين على الآخر، يستجير من الرمضاء بالنار\”
ولا حياة لمن تنادي.
وكما هو متوقع، وبدلا من أن يقر السيسي مدنية الدولة، دعم وجود السلفيين ورفض حل حزبهم الشهير، بل وأفرج مؤخرًا عن بعض من وجوههم المعروفة في مبادرته الرئاسية للإفراج عن بعض المتهمين سياسيًا، بدلا من الإفراج عن شباب الثورة الذين كانوا يخاطرون بحيواتهم ضد نظام الإخوان، وقتما كان سيادته يرفع يده محييًا مرسي بالتحية العسكرية، وتوالت الأحداث التي تؤكد أن النظام لا ولن يصنع المساواة التي أشعل حماس المسيحيين بها في السابق، وتوالت الاعتداءات على المسيحيين مع غل يد القانون وإحلال جلسات الصلح العرفي البغضية بدلًا منه، حتى وصل الأمر إلى تهجير الاقباط من العريش بدون أن يحرك النظام ساكنًا لمواجهة كارثة التهجير، حتى أصبحت سيناء خارج السيطرة تمامًا.
(7)
في العام 1963 قاد مارتن لوثر كنج جونيور مسيرة قوامها 250 ألف شخص منهم نحو 60 ألفًا من البيض متجهة صوب نصب لينكولن التذكاري ليلقي بخطبته الشهيرة \”لديّ حلم\”، مناديًا بإسقاط التمييز العنصري ضد السود في أمريكا، وفي العام 2009 تولى باراك أوباما ذو الأصول الأفريقية منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، بينما لا يزال أقباط مصر يرفضون تغيير النهج الذي يستخدموه منذ ألف وأربعمائة سنة، ويصرون على المضي قدمًا بنفس الأساليب القديمة البالية لتحقيق المواطنة والمساواة والعدالة.
فمتى ينضج الأقباط؟!