بينما أجلس كعادتي يوم الاثنين غارقة بين أكوام الأوراق تحضيرًا للاجتماع الأسبوعي، إذا بها ساندرا سكرتيرة مدير المدرسة وقد أرسلت بريدًا إلكترونيًا إلى كل الموظفين بما فيهم أنا، تطلب منّا إرفاق صورة لنا مع أمهاتنا استعدادًا لاحتفالات الغد بعيد الأم.
توقفت عند هذا الطلب وحاولت أن أتحجج بعدم قدرتي على تجهيز هذه الصور في الوقت الحالي وقدمت الأعذار الواهية لأنني في حقيقة الأمر لا أريد ذلك!
\”لا ده مش إنزلاق غضروفي، ده تصلب متعدد\”
خرجت من عيادة الطبيبة صاحبة الصوت والملامح الهادئة بعدما أوهمني هدوئها بأن كل شيء على ما يرام، بالتأكيد سيكون على ما يرام، فأنا لم أسمع بهذا المرض من قبل فلا داعي للقلق.
لثمانية أعوامٍ وأنا أتظاهر بأن كل شيء على ما يرام، أضع رأسي على الوسادة يوميًا متجاهلة آلامها مستعينة بملامح الطبيبة –التي لم نزرها بعدها قط– الهادئة وهي تخبرني بألّا أقلق، ثمانية أعوام وأنا أحاول ألا أقلق، أشاهدها يومًا بعد يوم تتساقط منها الحياة كزجاجة عطر ثُقبت من أسفل، لا أريد مواجهة الواقع بأن الأمر ليس على ما يرام وأن هناك خطرا حقيقيا على حياتها وشبح العجز والموت قد يطرق أبواب بيتنا في أي وقت.
\”طب أقولكوا نكتة؟\”
كانت دائمًا تضحك، تخطينا معًا عجز الحركة وعجز الكلمات بالضحكات، كنت أتساءل بيني وبين نفسي لو كان الله جعل لي أمًا غيرها، ماذا لو كانت قاسية القلب والطباع وأرهقت نفسها ومن حولها بمرضها؟ كنت أتساءل كثيرًا لو كانت امرأة غيرها خلعت شبابها واكتست بالشيبة مبكرًا، ماذا ستفعل بنا؟
جل ما تشكو منه هو أن تكون حِملا علينا، أن ترانا عاجزين غير قادرين على المواصلة، لم تكن هي وحدها من تخشى العجز، بل خشينا نحن العجز أكثر منها! لقد خشينا أن يصيبنا عجز الإرادة كلما أصابها هي عجز الحركة، الأمر يؤلمني كلما أردت أن اصطحبها معي لتجلس في مكانٍ مختلف لأحكي لها عما يحدث معي، لقد عهدتها وهي تتحرك بيننا بلا كلل ولا ملل تقضي حاجات الجميع، لازلت أتذكر زيارات المتاحف والحدائق ومصايف مطروح وصور شاطيء الغرام، لازلت أتذكر كل هذا وكأنه البارحة، أنا حبيسة هذه الذكريات أقتات عليها ليشتد عودي أمام مرضها، أتسلح بذكرى مر عليها سنين حتى لا أدرك الواقع الذي سرق مني رؤيتها وهي تجلس على المقعد الخشبي في حديقة متحف الشمع تحكي لي القصص والحكايات، أو وهي تمسك بيدي وتسير بي إلى عيادة الطبيب حتى أنهي جلسات علاج أسناني وهي تعدني بأن تشتري لي \”فخفخينا من فرغلي أول ما أخف\”.
جلست في الصف الأول، أشرف على بعض الفقرات التي ستعرض في الحفل متجاهلة الأجواء الباريسية الممطرة التي شهدتها إمارة الفجيرة هذا الصباح على غير العادة، وظل المطر ينهمر بينما يجرّب أستاذ \”بِن\” مكبرات الصوت والميكروفونات في القاعة.
بدأ العرض التقديمي لصور طاقم التدريس والعاملين بالمدرسة مع أمهاتهم، الجميع يشاهد الصور ويتوجه بنظره إلى صاحبها الجالس في مكانٍ ما في القاعة، إذا تمعنت النظر في وجوههم لرأيت الدموع وهي تقف متحجرة في عيون البعض بينما إنهار البعض الآخر وهو يتذكر أو يتمنى أو يندم على لقاءٍ لن يكتب له مع والدته.
لم أتحمل أن تُعرض صورة أمي من بين هؤلاء وأن أضطر لمواجهة حقائق كثيرة تعمدت أن أتجاهلها لسنواتٍ عديدة.
المرة الأخيرة التي استطعت فيها أن ألتقط لأمي صورة كانت من أكثر من خمسة سنوات، لقد تغيرت كثيرًا عما كنت أبدو عليه حينها وبالتأكيد هي كذلك تغيرت، لم أرد أن تقف هذه الصورة أمامي هنا وأنا في بلادٍ غريبة لتجبرني على مواجهة حقيقة أنني لم أعد بجوارها بعد اليوم، أو أنني لم ألتقط صورة لي معها منذ أكثر من خمس سنوات، الحقائق التي أخفتها الصورة كانت أكثر من قدرتي على التحمل في هذا الوقت، لقد أخفت الواقع الذي حفرت له حفرة في أعماقي ودفنته وهربت منه إلى هنا، هربت من مرضها وقلقي عليها ورغبتي في النظر مجددًا إلى وجهها الباسم كما عهدته وأنا طفلة.
اكتفيت بالتصفيق للجميع ومشاركة زملائي الحديث عن أمهاتهم، لكنني لم أتحدث عنها ولم أرسل تلك الصورة إلى ساندرا.