زياد العليمي يكتب: الفن يسبق السياسة.. 1980 وأنت طالع

كنت ومازلت من المؤمنين بأن الفنان في المجتمع أهم من السياسي! فالسياسة تخاطب عقول المواطنين، وتقنعهم بالتغيير، وتتغير قناعاتهم؛ ثم تعود إلى ما كانت عليه بمجرد ظهور تيار أقوى يحاول إقناع المواطنين بضرورة العودة إلى ما كنا عليه! أما الفنون فتخاطب وجدان المواطنين وتشكله، وتحدث تغييرا أبطأ مما تحدثه الأفكار السياسية؛ لكنه أطول بقاءا، لأن تغيير الوجدان لا يحدث بسهولة ولا بسرعة، فيبقى ويصعب تغييره مرة أخرى، لذلك يكون التغيير الاجتماعي الذي تستهدفه الفنون، سابقا دائما للتغيير السياسي.

وعلى هذا الأساس، ارى أن ثورة 25 يناير 2011، كانت التعبير السياسي عن تغيير اجتماعي، بدأ يحدث قبلها بعشر سنوات على الأقل.. قاد هذا التغيير وعبر عنه وشكله، عودة الفرق الموسيقية المستقلة للظهور، لتعيد الاعتبار إلى العمل الجماعي ـ بعد حوالي 30 عاما من سيطرة النجم الفردـ ومئات الأفلام المستقلة التي تحمل \”تيتراتها\” عبارة: \”الإنتاج: من فلوسي وفلوس أصحابي\”، كإشارة واضحة للتخلي عن سيطرة رأس المال على صناعة السينما وبداية مرحلة تنتصر للفن والرؤية وحدهما، بالإضافة إلى مئات المجموعات الشعرية والأدبية التي انتشرت في المحافظات، وفنانين الجرافيتي الذين كنا نرى أعمالهم على جدران الإسكندرية بالأساس، وبعض المحافظات الأخرى.

وفي ظل نظام استبدادي قائم على قتل الأمل في قلوب الناس، وترسيخ شعور عند كل حالم بوطن أفضل بأنه وحيد بين ملايين يتقبلون الوضع القائم؛ كانت هذه الحركة الفنية هي الصوت الوحيد المبشر بتغيير اجتماعي، يبعث للمتلقي رسالة مضمونها: لست وحدك، هناك كثيرون مثلك، يحلمون بوطن أفضل، وليس عليك سوى الخروج للالتقاء بهم!

وهو ما حدث، فأصبحت 25 يناير تعبيرا سياسيا عن تغيير اجتماعي حدث بالفعل.

والآن، يأتي عرض مسرحية \”1980 وانت طالع\”، لتحدد بعنوانها هوية من تخاطبهم.. جيلا أكبر من فيه عمره الآن 35 عاما.. يشعر أنه يعاقب لمجرد أنه حلم بحياة كالحياة، وأصبح لسان حاله الآن يردد خلف أمل دنقل:

لا تحلموا بعالم جديد

فخلف كل قيصر يموت

قيصر جديد

وخلف كل فارس يموت

أحزان بلا جدوى

ودمعة سدى

جيل لم تعلمه خبرة الحياة وكثرة التجارب؛ أن الانتصارات التي تعقبها هزائم تنقلب لانتصارات أكبر إذا تمسك الحالمون بحلمهم!

ناقش العرض ـ من خلال 13 لوحة مسرحية ألفها محمود جمال وأخرجها محمد جبر وساهم في تقديمها 20 شابا ما بين ممثلين وفنانين وفنيين ـ الأسئلة التي تشغل ذهن أبناء جيلهم الآن: السكن، العمل، العنوسة، تعامل المجتمع مع المرأة، نظرة هذا الجيل للمستقبل وما يشعر به الآن، قانون التظاهر، ورؤية كوميدية للمستقبل إذا استمر هذا الوضع.. وجهة نظر قطاع من هذا الجيل في آبائهم، ثم ينتهي العرض بلوحتين؛ إحداهما عرض للثورة من بدايتها حتى الآن، والآخر استخدم \”تيمة\” الضياع في الطريق ـ مثلما عرفها المصريون في أعمال فنية أشهرها مسرحية سكة السلامة ـ حيث يفاجأ اثنان من أبطال العرض بأنهما ضلا الطريق في منتصفه بسيارتهما، وحين يهمان بالرجوع خوفا من المجهول، يلحق بهما زملائهما ليستكملوا هذا الطريق سويا، وهو المشهد الذي وجدتني أردد بعده أبيات مصطفى إبراهيم:

تمن القضية اللي اندفع

مابقاش يجوز يرجع

يأتي هذا العرض في ظل إحباط يسيطر على كثيرين من أبناء هذا الجيل، يسعى خلاله أصحاب المصلحة في الفساد والاستبداد إلى استمرار تعميق شعورهم بالعزلة، وتنفق الملايين الآتية من أرباح الفساد والمنتفعة به، والمتضررة من حلم وطن مدني حديث، في سبيل شحن المواطنين ضدهم، في دعاية مضادة تسعى لتغييب الوعي وصولًا لاسترداد فسادستان.

وهكذا يوصل العرض رسالته إلى ملايين يشعرون بالوحدة والضياع: لست وحدك، وما عليك سوى أن تنظر حولك لترى أن رفاقك هم الأكثر، وأن من يكنزون المال، ينفقون الملايين على محاصرتك ومحاربتك، لأنهم يخشونك!

وسرعان ما تلقى الناس تلك الرسالة، وكان الرد بحضور كبير لعرض يعتمد على مشاهديه فقط في الدعاية له، استمر أكثر من ثلاثة أشهر ـ يتم تمديده نظرا للإقبال، بعد أن كان مقررا أن يعرض لمدة خمسة عشر يوما فقط ـ فأصبح على المسرح الذي لا يتسع سوى لخمسمائة مشاهد أن يتحمل 650 مشاهدا يوميا! يتابع ما لا يقل عن مائة وخمسين منهم العرض، وقوفا أو جلوسا على الأرض!

وحتى تكون واحدا من هؤلاء، عليك أن تكون موجودا قبل العرض بساعتين على الأقل للتمكن من إيجاد مقعد. وكان رد الجمهور على صناع العمل واضحا: شكرا.. أنتم أيضا لستم وحدكم، وستجمعنا ساعة انتصار قريبة!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top