نبيل العيسوي يكتب: "دومينو" تحذر: الحياة أكبر من لعبة.. قراءة في المجموعة القصصية لـ ناهد صلاح

\”إليه.. يشكو لي عدم استقرار قلبه وأشكو له عدم ثبات طلاء أظافري\”
بجملة الإهداء هذه تصَدِّر ناهد صلاح مجموعتها القصصية \”دومينو\” الصادرة عن دار مصر العربية؛ لتستوقف القارئ على هذا الإهداء المكتظ بالمعاني على قلة ألفاظه ريثما يبحث عن المقصد من وراء هذه المفارقة بين هذا الشاكي المتردد، ومقابلتها لتردده في مشاعره بلامبالاة وعدم تقدير مصطنع لشكواه؛ لتصدر له ما يحمل الكثير من المعاني والرسائل، وكأن هذا الإهداء يبعث برسالة إلى القارئ أن المجموعة تحتاج إلى تركيز وبذل جهد في التأويل، ونجد تشابها بين هذا الإهداء وبين موقف الحبيب المهاجر إلى أمريكا في قصة \”7 ساعات فرق\” حين يودع فتاته الباكية على فراقه قائلا \”ما تخافيش الموضوع كله سبع ساعات فرق\” وهي القصة التي لم تكتف بطرح المفارقة بين موقف البنت الباكية المخلصة لحبيبها، وبين حبيبها المتجني في توصيف الموقف واختزاله في فرق التوقيت؛ بل تلقي الضوء كذلك على النظرة التي ترى بها الطفلة (بائعة المناديل) التي لا تجد لها مأوى غير الشارع والأرصفة؛ حين تسأل الفتاة الباكية قائلة\” عايزة فلوس عشان ترجعي بيتك؟\” وكأن كل بكاء تراه الطفلة المشردة يشبه بكاؤها، وكل قضية تشبه قضيتها، وتأتي لفظة البيت هنا لدلالة مزدوجة بين ما تعنيه الطفلة المشردة والسبب الحقيقي لبكاء الفتاة؛ وكأن الحبيب هو البيت، وهكذا تنتهي القصة بعد أن تسلك بالقارئ سياقا طارئا غير سياقها الأول بين الفتاة وحبيبها؛ لتنتهي بلفظة البيت التي تناسب السياق الأصلي والسياق الطارئ الذي اقتحمت به الفتاة المشردة القصة.
تعبر هذه المجموعة كذلك عن شغف الكاتبة بالأمكنة وانشغالها بتوثيق الأمكنة والأحداث للتاريخ؛ نجد ذلك في قصة مثل \”شارع شامبليون\” التي تلقي فيها الكاتبة الضوء على الأماكن التاريخية العريقة مثل قصر شامبليون، وقلقها من عدم التفات القاهرة لتاريخها حتى أصبح كشري \”أبو طارق\” أكثر شهرة من قصر شامبليون.
تستخدم ناهد صلاح في بعض قصص هذه المجموعة أسلوب التعبير عن الشئ بما يدل عليه، بدلا من التصريح المباشر بهذا الشئ لاستثارة القارئ للبحث عن الدلالة والانتشاء بالوصول إليها؛ فتراها في قصة \”زيرو\” تقول عن البطلة: \”ابتسمت ولم تخبره أنها قتلت ثلاث مرات قبل أن تولد هذه المرة\”
تعبر هنا عن العلاقة بالحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالقتل؛ لتولد من جديد في علاقة أخرى، وللخيال هنا أن يحلق كيف يشاء بحثا عن الدلالات الكامنة في التعبير عن العلاقة بالحياة، هل يفكر في أن الحياة بلا علاقة كالعدم، أم يفكر أنها لم تتعلم من الوقوع في خطأ علاقة زائفة نهايتها ما يشبه القتل؛ ومع ذلك يتكرر الخطأ، أم يفكر في مدى إخلاصها للزيف الذي تعجز عن تمييزه؟ أم يتساءل كيف سيكون مصير العلاقة الجديدة؟
ومرة يكون الدال على هذه العلاقة رائحة القرفة التي تنبعث من الحبيب كما في قصة \”رائحة القرفة اللطيفة\” عندما تعجز البطلة عن الاستمرار في شم رائحة القرفة بعد أن اكتشفت حقيقة حبيبها الذي جلس يرصد عدد التفجيرات بعد أن تحسس عضلاته؛ هذه الشخصية التي قامت الكاتبة بالكشف عنها كشفا تصاعديا؛ بداية بوصفها لعينيه بالضيقتين، ثم وضعه قدما في التاكسي وأخرى على الأرض متوترا، مرورا بانتمائه للضيق رغم عمارته الكبيرة التي تمثل الوطن، وتراه متمسكا بالكنبة القديمة وكأنه يخاصم الجمال ويستمسك بالماضوية ويرفض التخلي عنها.
وهكذا تنتهج ناهد صلاح أسلوبا في التعبير عن فكرتها دون مباشرة في الطرح، رغم أنها سقطت في هذه المباشرة حين عبرت صراحة عن تحيزها لعبد الناصر، وكان من الأفضل أن تستخدم تقنية أدبية لتسريب ما تريد إلى وجدان القارئ دون التصريح المباشر الذي يقطع السرد.
وفي قصتها \”رشة ملح\” تنهي ناهد صلاح قصتها بمفارقة صادمة مهدت لها على مهل، أخذت القارئ في رحلة إلى مطبخ البطلة، وأشركته في همها، عرف من التفاصيل حرصها على الكمال، إنها امرأة لا تقبل إلا بالمثالية، تحاول الاستجابة لمتطلبات ذائقة زوجها في الطعام، تحاول إقناع نفسها بوجبة تعرف ضرر مكوناتها، تقوم بالطبخ بطريقة مثالية، قضت نصف نهارها تفكر في طبق السلطة الذي ستبهره به، تشعر بقلق يطاردها لا يتآلف مع مثاليتها المنشودة التي لم تقصر الكاتبة في إظهارها، هل هي في المكان الصحيح، وهل المطبخ هو المكان الذي تشبع فيه رغبتها في تحقيق المثالية التي تلح عليها، هل كانت مثالية في اختيارها، وقبل رشة الملح التي بها يكتمل طبق السلطة تكون الإفاقة، تختار الزوجة أن تجعل المثالية في محلها، تهرب من اختيار خاطئ؛ تطلب الطلاق، وفي هذه القصة تظهر قدرة الكاتبة على صناعة الدهشة والعمل عليها من أول سطر في القصة، تسخر كل التفاصيل الدقيقة في رسم الشخصية وفي نفس الوقت في تعميق الدهشة بتوظيف هذه التفاصيل في خدمتها.
لا تلتزم المجموعة القصصية بأسلوب واحد في الحكي؛ فتارة تجد الراوي العليم يحكي عن الشخصيات ويعلم ضعفها وقوتها، وتارة تأتي القصة على لسان إحدى شخصياتها أو أكثر، وأحيانا تستخدم الكاتبة التفاتا من صوت الراوي إلى صوت بطل القصة كما في قصة \”مركب شراعي\”.
كما نجد في المجموعة القصصية الفانتازيا حيث البطل شبح كما في قصة \”نون والقلم وما يسطرون\” وهذا التنوع في المجموعة يدلل على ثرائها وتنوع أساليبها في السرد، رغم أن هذا السرد قد غاب تماما في قصة مثل \”السرسجي\” حيث وجهت الكاتبة الخطاب إلى شخصية واحدة.
ظهر التناص في المجموعة في مواضع مختلفة سواء في عناوين القصص أو بداخلها، وجاء التناص مع القرآن الكريم ومع بعض الأعمال الفنية؛ وهو ما يدلل على ظهور خلفية الكاتبة الثقافية المتأثرة بالدين وبالأعمال الفنية في كتابتها وهو ما جعل العمل في ظني يتفق مع الذائقة المصرية العامة.
وأخيرا، نطرح السؤال المهم عن هذه المجموعة:
هل تقف هذه المجموعة القصصية موقف العداء من الرجل وتنتصر للمرأة، أم تقف موقف العداء من الزيف والهشاشة والوهم في العلاقة لصالح المرأة والرجل معا؟
هذا ما يجيب عليه القارئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top