إحدى أول وأهم الأمراض الاجتماعية -من وجهة نظري- هي عقدة \”الكليات القمة\” والتي تذهب بجدارة لكليتي الطب والهندسة. دون أي سبب مقنع.
إن تفّكر المجتمع في مصائر خريجي هذه الكليات فسيرى القاع بالمعنى الحرفي. وإن نظر أعمق قليلا فسيرى الإبداع الذي لا يقتصر على القمة والدرجة المرتفعة وإنما على تلك الحديقة الزاهرة داخل عقل ولده وتحتاج فقط لحسن الرعاية. لا لبستاني دموي ينتشلها بكل بغض.
الطب أو الهندسة كشهادة لا تمثل شيئا زائدا عن باقي الكليات. بل وقد تقتصر متطلبات سوق العمل في الوقت الحالي على تلك الشهادات الأخرى الذي يحقر المجتمع منها. فمن يريد أن يوظف طبيبا ضمن عشرات الآلاف أمثاله؟ ولكن بالطبع يبحث عن مسوّق على سبيل المثال. أو مبرمج. تلك الشهادات التي تبنى عليها أكبر الشركات نجاحا.
الإبداع وحده هو ما يجد لك وظيفة ويؤمّن لك الاستمرارية، فجميعنا نعلم أن قرابة الـ 90 بالمائة المؤثرين في عالمنا والذين نكن لهم الفضل -بعد الله- في جعله أفضل لم يكونوا يوما أطباء أو مهندسين. الرائع الراحل مصطفى محمود خاض رحلة الطب ولم نعرفه يوما لأجله.
ماذا يستفيد ذلك الأب عندما يضغط على ولده بكافة الطرق الممكنة في أجمل أيام حياته وأوج مراحله إبداعا -فقط- ليكون واحدا من هؤلاء العبيد الساعين خلف وهج الطب وسراب الهندسة؟ نعم سعى بالفعل وأمسك بهذا الوهج. وماذا بعد؟ سبع سنوات أخرى من العذاب النفسي وفقط عندما ينتهي جحيم السبع سنوات بطبقاته يدركون حقيقة الأمر. لم يكن سوى وهم.
كليات القمة لا ترفع مكانتك في المجتمع. أنت وحدك من تفعل. بذكائك. وحسن تخطيطك، فإن كنت تسعى للمال فلن تختار الطب أو الهندسة. وإن كنت تسعى لمكانة مجتمعية فلن تختارهما أيضا. أما إن كنت تسعى لإثبات ذاتك والسطوع في سماء تاريخك الوظيفي، فحتما لن تختارهما أبدا. تختارهم في حال واحد فقط لا غير. وهو الحال الذي يتمثل في نظرية القطيع، عندما يتبع الفرد الجماعة دون أدنى فكرة. الذي أطلق عليه الأعمى الذي طمست بصيرته.
نحن نحيا في زمان حيث لا قيود للنجاح. ولا قاعدة، فقط سلم معلق في الفراغ. لك أن تختار قاعدته. لا يتمثل الإبداع في شكل معين. في الواقع، الابداع هو أن تبدع في خلقه. ومن لا يعترف بذلك، فهو لا زال عالقا حيث زمن \”الطرابيش\” عندما كان التعليم بحد ذاته عبقرية.
ربما إحدى المواقف التي عززت من موقفي هذا هو عندما قذفت بي الأقدار في أحضان مشفى حكومي. وأكاد أقسم أنني لم أفرق بين الطبيبة وعاملة الشاي. هذا ليس إهانة للطبيبة ولا لعاملة الشاي. بل لمجتمعها الذي أوقعها في شباك الوهج الوهمي. ولتلك الحكومة التي لم تقدر يوما سبع سنوات الجحيم هذه ولو بكلمة شكر وعرفان.
فرض كلية معينة على الأبناء أيا كانت هي جريمة وبرأيي أنها تتوجب عقوبة قانونية وإن كانت مخففة. فبغض النظر عن قتل الإبداع الذي هو هواية كل أب من هذا النوع من اليوم الأول الذي يرى فيه ابنه النور. وبغض النظر عما يمكن أن ينتج عنه من مشكلات تهدد أمن العقول بل حتى أمن الأسرة، إلا أن معدلات الفشل خيالية. وتلك الكلية التي تحلم بها أيها الأب لن تحقق لك نصف ما تتمناه لابنك وقد يصاب بعقدة حياتية ناتجة عن تدخلك فيما لا يعنيك.
لا أحقر هنا من فضل الوالدين. وترفع لهم القبعة على مجهودهم في العناية بهذا المخلوق على مدار اثنى عشر عاما من التعليم ليخرج وقد آن الأوان ليقدم لمجتمعه ودينه شيئا كان سببا في خلقه. ولكني أقترح على جميع الآباء النصح اللطيف الذي هو واجبهم أولا وآخرا، والذي حث عليه الدين الإسلامي الذي ننتمي لزمرته. ودرب رسولنا الذي لا نحيد عنه.
من لديه شغف وكان مكانه إحدى الكليات المذكورة. فهو برئ تماما من اتهاماتي. فهي موجهة فقط لأولئك الذين فرضوه وصفدوه باسم (القمة) وعنوان الإبداع.
وأخيرا:
لكل طبيب ومهندس عثر بمقالي هذا صدفة. ربما تعلم بالفعل عما أتحدث. ربما لا تتوافق معي. وفي كلتا الحالتين أشكرك. فربما عالجت يوما آفتي. وربما بنيت شقتي.