تمنيت أن يفوز المنتخب المصري باللقب الإفريقي الثامن رغم عدم شغفي بالكأس، لست شغوفا به ببساطة لأني من الجيل الذي عاصرت مراهقته عصر المعلم حسن شحاتة الذي قدم وجبة دسمة من البطولة الأبرز في أفريقيا تكفي من هم في نفس عمري للشبع منها وعدم الحنين إليها إلا بعد الانخراط في الحياة الدنيا ومصاعبها حيث البحث عن متنفس يجعلنا ننسى الخرط ولو قليلا، ربما سيعود الشغف لها وأنا ابن الثلاثين مثلا، ولكن ما جعلني أتمناها هذه المرة هو ذاك الاستثنائي عصام الحضري ابن الأربعة والأربعين الذي استطاع التغلب على كبر سنه وقلة لياقته ليكسر العديد من الأرقام القياسية ويضرب معها مثالا للإصرار والتغلب على صعوبة الظروف، ورغم ذلك لم أحزن لحزن الحضري بعد خسارة النهائي، ربما لأن ذاكرتي مليئة بالشخصيات الاستثنائية في مجالات أكثر جدية ووطنية من كرة القدم تجاوزوا صعابا أصعب بكثير من تلك التي تجاوزها حارسنا التاريخي، ما استوقفني في موضوع الحضري هو الكلام عن عودته للنادي الأهلي كإرضاء وتكريم لشخص يستحق الإرضاء والتكريم في مجاله وبعد سنوات من الهروب قدم خلالها الحارس الأسطوري العشرات من الاعتذارات، عودة الأسطورة موضوع كان كفيلا بإشعال مواقع التواصل الاجتماعي طيلة أيام البطولة ما بين معارض ينتمي لنظرية \”الأهلي فوق الجميع\” ومؤيد قرر أن يعفو عما سلف، الملفت للانتباه هي الردود التي استخدمها موزّعي صكوك العفو وعلاقة تلك الردود بعلم المنطق.
( 1) \”حسام البدري المدرب الحالي ساب الفريق في ظروف صعبة والإدارة رجعته وكأن شيئا لم يكن\” ثم يتعقب الرد نظرة المنتصر من أخونا الزملكاوي في عيني صديقه الأهلاوي الصامت بحثًا عن رد يدعم وصلة الانفعال التي قدمها في كلامه عن المبادئ والتميز والعلو على الجميع، صناعة الجدل، هي أحد الصناعات الخمسة التي تكلم عنها المعلم الأول أرسطو في تشريحه للدليل، والدليل هو ما نقدمه لإقناع الغير وما يجعلنا نحن نقتنع، الغرض من الجدل هو إقناع الشخص المجادل أو على الأقل إسكاته، عن طريق عرض أمر هو مؤمن به يعكس تمامًا الأمر الآخر الذي يتبناه في موضوع النقاش، ما يجعل الصديق الأهلاوي يصل إلى يقين لا يدع مجال للشك بأن عودة الحضري لا تخل بالمبادئ، الجدل يؤدي إلى يقين ولكن بالمعنى الأعم، يعني إما أن يكون اليقين الذي توصل له صحيحا ومطابقا للواقع أو يقينا كاذبا، فبنفس الصناعة يمكنك إقناع سيدة شعبية بسيطة بأن نصبها مصيدة لاصطياد \”العرسة\” فوق السطوح لحماية دواجنها أمر قبيح، فطالما أرادت السلامة لدواجنها وهي في الأصل حيوانات فلترضى بسلامة \”العرسة\” لأنها حيوان أيضا، وبمثال أكثر جدية تجد الإسرائيليين يتباكون على ضحاياهم وينددون بذلك لأن القتل فعل لا تستحسنه الإنسانية وطالما أنت إنسان فعليك أن تكون محبًا للسلام وألا تعتدي، هذا هو الجدل، إن أخذت به ستصل لليقين، ولكنه قائم على مقدمات غير يقينية فيجعل من يقينك عُرضة للكذب ويجعلك أنت عُرضة للجهل المركب أي الجهل بالشيء وجهلك بجهلك للشيء لأنك ببساطة قررت الوصول لليقين من خلال مجادلة أحدهم، فادعوا الله أن تتصادف المجادلة مع اليقين الصادق.
(2) \”ألا تكفي دموعه وتوسلاته، ألا يكفي تاريخه وإنجازاته\” صناعة الخطابة، اللعب على العواطف، أقصى ما تقدمه هو الظن في أمر ما ولكن المعظم من أصحاب العاطفة الجياشة يقررون أن ذلك الظن هو يقين لأنه ببساطة لمس مشاعرهم، ولذلك فالخطابة هي الراعي الرسمي للتلفاز، هي الصناعة التي يستخدمها الإعلاميون والسياسيون في إقناع الجماهير، وهي صناعة لا تتعرض للب الموضوع ولا جوهرة مهما قيل فيها ومهما حملت من كلمات مؤثرة تجلب معها الدموع والقشعريرة، أن ترفع رأسك مبتهجًا بجنسيتك فهذا أمر ليس له علاقة بمشكلات بلدك، وكون حي المعادي أفضل أحياء العاصمة فهذا لا يعطي تفسيرًا عن سبب انقطاع المياه في المعادي 48 ساعة متواصلة مثلًا، وكون الحضري أسطورة تستحق التقدير فهذا لا يمس مخالفته للمبادئ بأي صلة، أتذكر عندما تعرضت لنزلة برد حين كنت طفلا في الابتدائية، يومها قام أبي مشكورًا بحل واجبي المدرسي وعندما قدمته لمُدرسّتي اكتشْفَت من اختلاف الخطوط أنه ليس أنا من قام بالحل، لا أعلم لماذا كان عليها أن تقتنع بدفاعي عن نفسي لمّا قلت لها \”ده أبويا اللي حالل\” وأنا في ثنايا نفسي أقصد إنه يهمه مصلحتي ويريدني أن أتعلم جيدًا، حقها أن تلقي الكشكول في وجهي بعد هذا الرد، كان بإمكاني أن أقدم برهانا قائما على كوني مريضا، فالمريض لا يقوى على تحمل ضغوط العمل والواجب المدرسي عملي فلم أقو على تحمله أثناء مرضي، ولكنها العاطفة!
(3) \”إنه السد العالي، إنه أسد إفريقيا، ألا يستحق العودة لذلك\” صناعة الشعر، تتكون من تلك الكنايات والاستعارات اللغوية لخلق خيال يحرك النفس سواء بالانبساط أو الانقباض حسب الموضوع المطروح، وبمناسبة الخيال استوقفني أحد المُغنيين المتغنيين بجمال الوجه والعيون واستقامة العود، وجدت له لقاء تلفزيونيا مع زوجته وهي عادية الوجه \”مش جميلة خالص\” ورغم ذلك وجدته يتحدث عن دعمها له وروحها النبيلة التي صبرت على صعوبة البداية والتي لم تتغير بعد النجومية، \”طب بتغني علينا ليه يا نجم؟\”، صناعة الشعر كأختها الخطابة لا تفيد سوى الظن وإن تعامل الكثير معها على كونها يقينا، وهي أيضًا لا تلمس لب الموضوع.
(4) \”على فكرة جوزية كان بيضايقه وماكنش بيحبه، ماشوفتش هاجمه إزاي أول ما مشي، كان حقه يطفش\” صناعة المغالطة، الاستدلال بأمر حقيقي لإقناعك بأمر آخر غير حقيقي فيلتبس عليك الأمر، نعم جوزيه هاجم الحضري بعد رحيله المفاجئ ولكن هذا لا علاقة له برحيل الحضري ولا يسمح بالقول إن جوزيه هو من \” طفّشه\”، يستخدم ضُعاف الحجة المغالطة لتغفيل الناس، كهذا المسجون القديم حينما يريد إثبات الزعامة على حديث العهد بالبدلة الزرقاء فيأمره بجدية أن يركب الموتوسيكل المرسوم على الحائط في مزيج من المغالطة والرخامة معًا، نعم هو موتوسيكل ولكنها صورة له، المغالطة عزيزي القارئ هي اقتناع الحكم بأن هدف مارادونا الشهير بيده هو هدف سليم، هي اقتناع مواطن مصري بأن أفلام محمد رمضان تكافح البلطجة لأن البطل يموت في النهاية، المغالطة هي اقتناع مواطن عالمي بأن أمريكا تكافح الإرهاب، هي اقتناع العريس المسكين بعد دفعه لمهر باهظ بأن حماه صادقًا عندما قال له \”إحنا بنشتري راجل\”، المغالطة تعني اقتناعك بأن إحدى الراقصات شريفة وعفيفة لأنها أدت فريضة الحج، المغالطة هي صناعة الخداع.
(5) صناعة البرهان، هي الصناعة المُكلفة بالوصول إلى حقائق الأمور، يستخدمها الباحث عن الحقيقة الذي لديه الصبر على التفكير والقدرة على القيام بذلك بشكل متجرد عن هوى النفس وانفعالاتها وغضبها، البرهان هو الدليل اليقيني الصادق الذي لا يقبل الظن ولا الكذب، أساسه بديهيات العقل البشري في الأفكار، والحسن والقبح العقلي في الأفعال، في الحقيقة لم أجد ردا برهانيا على موضوع عودة الحضري لناديه القديم فقررت ونتيجة استفزاز الردود السابقة البحث عن الرد البرهاني لهذا الأمر كنوع من أنواع تدريب العقل، الحضري ترك ناديه السابق في وقت صعب هذه حقيقة، قيام حسام البدري بنفس الفعل في السابق لا ينفي عن الحضري التهمة، إنجازات الحضري لا علاقة لها بالتهمة أصلًا، إذًا الحضري مدان وإننا نبحث الآن في المغفرة وليس نفي الإدانة، عودة الحضري إجراء ستقوم به إدارة النادي أي إنه فعل وسلوك، ما يحكم الأفعال والسلوكيات هو علم الأخلاق، فضيلة العفو عند المقدرة فضيلة يستحسنها العقل البشري ودعت إليها النصوص الدينية، المقصود بالمقدرة هنا هو العفو دون أن يصاحب ذلك ضرر، دفع الضرر أمر غريزي لدينا والعقل يحدد مدى خطورة الضرر حتى لا نقع في فخ القلق المرضي، الضرر في موضوع الحضري متمثل في كون عودته ستفتح الباب أمام اللاعبين في الرحيل والعودة كما شاءوا دون رادع، فهل هذا يمثل ضررا حقيقيا على النادي أم أن نادي بهذا الثِقل والقوة لا يتأثر بغياب لاعب؟ إن كان سيمثل ضررا فمن العقل ألا يعود اللاعب وإن كان بلا ضرر فمن الفضيلة الأخلاقية أن يعود، في كلتا الحالتين تدخًل الانتقام في الأمر هو تغييب للعقل وانتصار لهوى النفس، المبدأ الحقيقي في العفو عند المقدرة وليس العلو على الجميع، الله يعفو عن المستغفر ولو كان يحاسبنا بمبدأ الانتقام لهلكنا جميعًا، بالتأكيد لم يسع المقال لعرض الصناعات الخمسة بشكل وافٍ مفصل، ما أردت الإشارة إليه هو وجوب الاطّلاع على علم المنطق، فإذا كان الإنسان يستخدم التفكير في كل تفاصيل حياته، السهل منها والعسير، فالمنطق هو قواعد التفكير السليم، وختامًا أهل الفلسفة يقولون \”نحن أهل البرهان نميل معه حيث يميل\”