شيماء عبد العظيم تكتب: رغاوي أفكار

يأتيني شعور بين الحين والآخر بأن الحياة بما فيها وكل ما عليها عبارة عن رغاوي.. مجرد فقاعات هوائية لا قيمة لها تشغل حيزا أكبر بكثير من أهميتها، بمعنى آخر نوع من الوهم!

منذ أعوام ماضية سمعت ابتهالا يقول:
\”قل لمن يفهم عني ما أقول
فصل القول فذا شرح يطول
ثَمَ سر غامض من دونه ضربت والله أعناق الفحول
أنت لا تعلم إياك ولا تدري من أنت ولا كيف الوصول\”
توقفت لدى المقطع الأخير كثيرا: \”أنت لا تعلم إياك ولا تدري من أنت ولا كيف الوصول\”
وبحثت وقتها من شدة انبهاري بالمعنى، لأجد أنها قصيدة لأبي حامد الغزالي، لم أكن أعلم بالقصيدة حينذاك، ثم بت أفكر في معناها مقترنا بحالة الرغاوي التي تأتيني.. كيف استطاعت تلخيص وضع ظننته معقداً بهذه السلاسة!
الحياة بكل ما تحمله من أفكار مرهقة وصراعات وحسابات معقدة، سواء ظننا أننا نفهمها أو اعترفنا -بعد نضج فكري معين- بعدم فهمنا لها، لا يتجاوز الرغاوي.. عاجلا أم آجلا هي إلى زوال.
أكذوبة أو مقدمة مبتورة لا تحمل معنى في ذاتها، إنما تنتظر مكملا ما ليتضح معناها، لا يجب إذن أن تأخذها بجدية أو تصدق بها.. لا يجب أن ترهقنا إلى هذا الحد، لكنها لازالت وسوف تظل ترهقنا رغما عن أنوفنا.

أنت تسأل فتحتار، تبحث فترهقك دوامات الاحتمالات، تقرأ وتضطلع فيتضح لك جهلك جليا، وكلما ازداد إصرارك على عبور حيز الرغاوي واكتشاف الحقائق، ذلت قدماك أكثر وأُغرِقت حتى أذنيك في رغاوي التيه.
الإنسان بطبيعته يعشق الثوابت وفي بحث مستمر عنها.. الثوابت مريحة، فأنت غير مضطر لإرهاق ذهنك إلى هذا الحد في الاختيار طالما وُجِدَت قاعدة. تعلم أن العرف –مثلا- يقتضي بكذا فتفعله أو يجرم كذا فتتجنبه. القاعدة تتخذ لك القرارات وتعفيك من حيرة الاختيار الحر، بل وترفع عنك عبء تحمل مسؤولية الإخفاق.
المشكلة تبدأ حين تراجع مفاهيمك الثابتة وتبدأ في طرح أسئلة عن حقيقة ما تظل تدور في فلكها ولا تصل أبدا!

وقتها يصفعك الواقع صفعة قوية ويضرب بكل ثوابتك عرض الحائط، فما أرهقت نفسك كثيرا لتطمئن لأنه ثابت يتغير، والذي ظننته متغيرا يمكن أن يحقق لك المعادلة لكن أيضا لفترة محدودة.

تحب فتطمئن وتؤمن بالخير، يتبدل الحال فتكفر بكل ما هو طيب وسامي، تنجح فتصنع قواعد النجاح بيدك، تخفق فينهار عالمك من حولك. تتبنى ثوابت الآخرين تارة، وتارة تصنع أصنامك بنفسك وهكذا، كلما اقتربت من الحقيقة ازددت ابتعادا، وكلما وطأت قدماك أرضا صلبة واطمأننت لها، سرعان ما ذلت مرة أخرى لتقع في متاهات الحيرة.
منذ فترة قرأت كتابا بعنوان \”The five people you meet in heaven\” أو “خمس أشخاص تقابلهم في الجنة”.

فكرة الكتاب مدهشة وعبقرية، فلأول مرة يصور الكاتب الجنة بصورة قريبة إلى المنطق وبعيدة عن المعتاد. لم تكن الجنة من منظور الكاتب إلا مكاناً للمعرفة، لا حدائق وسهول خضراء شاسعة ولا أنهار ولا ملذات حسية لا تتوقف.. فقط مكان للمعرفة والإدراك، معرفة كل الأسرار التي خفيت عنك طوال حياتك، تجميع كل الأجزاء الناقصة، الحكمة من وراء الأحداث، أسباب وأسباب لا تنتهي تروي عطشا من الحيرة يُقّدر بطول عمرك.
وبعد عمرٍ من \”أنت لا تعلم إياك ولا تدري من أنت ولا كيف الوصول\” أخيرا تصل وأخيرا تدرك!
إن كنت لا تجد في الحياة ما يستهويك وتبغض محدودية رؤيتك ونقص علمك، فتوقع -مثلي- من الله أن يجيب عن الكثير من الأسئلة في مكان وزمان آخرين.. وكفى بالمعرفة نعمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top