فترة السبعينيات هي فترة التمزق العربي على كل الجبهات، مات عبد الناصر، وبوفاته انتحرت كل أحلام المشروع القومي العربي، تنازعت جميع الأطراف، تغيرت السياسات العربية داخليًا وخارجيًا تزايدت التوترات بشدة في لبنان، وأدت إلى حرب أهلية دامت قرابة خمسة عشر عامًا.
كان شاهين حينها قد انتهى لتوه من معركة فيلمه \”العصفور\” الذي كان المحاولة الأولى لمعالجة النكسة وأسبابها الاجتماعية والسياسية بعد \”1967\”.
وكان شاهين كعادته مهمومًا بالشأن العربي ككل، فأبدع لنا فيلمه الأكثر سوداوية في تاريخه \”عودة الابن الضال\”.
يقول شاهين: \”لقد كنت مرعوبًا ورعبي هو ما دفعني لصنع هذا الفيلم، وكان الفيلم نوعًا من الفهم والاستنتاج أردت أن أشاركه مع الجمهور، وكنت خائفًا من أن أمورا تخلصنا منها تعود إلى مجتمعنا من جديد.
الحكومة فهمت الانفتاح بنفس الطريق الخاطئة التي فهمت بها الاشتراكية من ذي قبل، والآن قد صار الانفتاح مخططا بدرجة مساوية من أجل منفعتهم الخاصة، وبنفس طريقة تلاعبهم بالاشتراكية من قبل، وهذا كله يؤدي إلى تكوين طبقة عليا جديدة من أولئك المتلاعبين الذين يبحثون فقط عن مصالحهم الشخصية فقط.
قصة الفيلم مقتبسة عن رواية لأندريه جيد، رآها شاهين خير معبر عن رؤيته المستقبلية للحال العربي البائس من خلال سرد حكاية أسرتين متقابلتين، أسرة إبراهيم البرجوازية ووالده طلبة الذي يرعى شئون الأسرة بعد أن أخرجته أمه عنوة من الكلية الحربية وجده محمد المدبولي، والذي كان يحلم بأن يعمر الصحراء، فبدد ثروته، وفاطمة إحدى أقرباء الأسرة، والتي تنتظر عودة علي، وقد أعطت أموالها لعائلة المدبولي بعد أن أفلست.
والجدة التي تحاول بشتى الطرق أن تحافظ على روابط الأسرة، وتسعي جاهدة أن تتزوج فاطمة من طلبة، فتحافظ بذلك على أموال الأسرة.
أما الأسرة الثانية فهي أسرة تفيده، والتي تتكون من والدها حسونة والذي يعمل في مصنع طلبة، وأمها السكندرية المشاكسة المرحة.
كان شاهين كعادته متسقًا مع مبادئه، فكانت أسرة إبراهيم مفككة يملؤها الحقد والكره بلا روح ولا أي روابط أسرية، على عكس أسرة تفيدة التي صورها شاهين والحب والسعادة والترابط يملأ بيتها الفقير.
كان سيناريو \”عودة الابن الضال\” أحد أقوى سيناريوهات شاهين، والذي كتبه برفقة المبدع الرائع صلاح جاهين، بالرغم من أن قصة الفيلم خطية؛ لكننا نراها دائمًا تتأرجح بين الماضي والحاضر بين الندم والحلم، وكان الفيلم خير معبر عن \”الميلودراما المصرية الكلاسيكية\” حيث المأساة هي البطل الحقيقي، يعبر السيناريو بوضوح عن رؤى شاهين وأيدلوجيته التي نراها بازغة في مشهد طلبة صاحب المصنع الرأسمالي، وهو يطرد أحد عماله بعد أن يصاب، ثم يستبدله، كذلك نرى الظلم والاستبداد حين يقطع طلبة جواز السفر لابنه؛ ليجبره على البقاء، ويمنعه من السفر لتحقيق حلمه.
نرى أيضًا في سيناريو الفيلم علي الحالم، وقد سافر ولم يعد، وحين عاد صار باهتًا ضعيفًا خاضعًا وَهِنًا.
يعبر شاهين بقوة عن آرائه السياسية، حيث يصور حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية القديم، وقد صار خادمًا للرأسمالية.
نرى الصراع داخل الفيلم على أكثر من صعيد، حيث صراع طلبة وابنه إبراهيم، حيث السلطة الأبوية تتجسد في أقوى صورها، وهي تمنع الحلم عن التحقق، ونرى صراع طلبة وابنة خاله فاطمة، والتي قام باغتصابها سابقًا، ثم نراه يحاول مرارًا جلب رضاها في أكثر من موقف، بالإضافة إلى ذلك نرى صراع علي بعد رجوعه، وكل من كان يعرفهم سابقًا، ويعولون عليه أن يحقق لهم أحلامهم المعطلة.
كل تلك الصراعات جعلت من الفيلم وجبة درامية دسمة.
تنتهي كل تلك الصراعات نهاية شكسبيرية رائعة، حين تجتمع الأسرة للاحتفال بزواج علي من ابنة خاله فاطمة، ونرى إطلاق النار في جميع الجهات، والذي يؤدي إلى مقتل أسرة إبراهيم عدا محمد المدبولي، وإبراهيم، والأخير نجح في تجنب المذبحة والسفر مع تفيدة للدراسة في الإسكندرية.
هنا يرمز شاهين بوضوح إلى الواقع اللبناني في ذلك الوقت إبان الحرب الأهلية والتي كان يراها شاهين قد تحدث في دول عربية أخرى!
رمزيًا، يمثل علي بطلًا ناصريًا مأساويًا يتطلع إلى السماء، ولكنه يخسر الأرض الواقعة تحت قدميه، ويدمر ما يفترض أنه مدمر ولكنه غير قادر على بناء ما يحتاج للبناء، وأخيرًا، يقف وحيدًا يصرخ على أطلال مصر، ورمزيًا أيضًا يمثل كل من تفيدة وإبراهيم الشباب الحالم بالتغيير الحقيقي، نرى ذلك بوضوح خلال أغنية \”الشارع لنا\” والتي تبرز حقيقة أنه مهما بلغت قوة السلطة وبطشها سيظل الشارع هو الملجأ والطريق الوحيد لأي تغيير حقيقي.
وحين تبلغ تفيدة إبراهيم بأنه إذا ما سافر فلن تنتظره كما انتظرت فاطمة علي، يحذر شاهين الأجيال الشابة من تكرار أخطاء الماضي وخطاياه.
يهتم شاهين في الفيلم بتصوير الأسرة كاللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإذا ما كانت مفككة مهلهلة، كذلك سيكون المجتمع. يأتي هذا الطرح إبان خطابات السادات التي كانت تصوره كأب للعائلة المصرية، وأكدت أن الجميع ينبغي أن يعيشوا معًا في ظل تجانس هذه العائلة، لكن وبعد عرض الفيلم بأشهر قليلة، اندلعت في مصر مظاهرات ضخمة لتعري بذلك كذبة الرئيس الكبيرة عن فكرة العائلة الواحدة المزعومة.
أخيرًا، يقول شاهين عن هذا الفيلم: \”نظام العائلة نظام برجوازي في حد ذاته، مثلًا هناك بعض العائلات التي تحكم بعض الدول العربية تعتبر النفط ملكية خاصة لها وحدها، لا تزال توجد بالفعل علاقات صحيحة داخل هذا النظام، لكنه بلا شك هو أساس السلطة الأبوية الحالية، لذلك يجب إزالته بكل قيمه وأساليبه في التفكير، فالبرجوازي يقمع ويستغل الآخرين مدعيًا أنه يفعل ذلك من أجل أطفاله، ويقمع أطفاله مدعيًا بأنه يفعل ذلك لمصلحتهم، وهذا هو الرأي الذي يفتقد الضمير، ويلجأ إليه البرجوازي لكي يبرر قوته وسلطته\”
ينتهي الفيلم حين يسافر كل من إبراهيم وفاطمة إلى المجهول إلى واقع جديد.