\”الحرافيش\” لنجيب محفوظ
تلامس أصابعك الصفحات الأولى من رواية \”الحرافيش\”، لتجد نفسك أمام جبل شاهق الإرتفاع تحاول تسلقه، ولكن ما أنت بالمفتول الذي يستطيع أن يعاكس الجاذبية، فتستمر في الهبوط إلى أعلى.
شككت في البداية أن ثقل الكتاب يتبلور حول حجمه الضخم الذي يصل إلى 599 صفحة، ولكن ما لبثت إلا وتلاشت فكرة عدد الصفحات عن خاطري، وبدأت أفكر بأن ربما الإحساس بالثقل هذا ينتابني بسبب كثرة الازدواجات، والاستعارات، وغيرها من المحسنات البديعية. لكن شيئا أثقل من هذا وذاك تشعر بكل حمله يتبلد فوق عاتقيك، وكأنك قفزت في البحر بثيابك كاملة، هكذا دفعة واحدة وأنت لا تجيد السباحة.
\”لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة\”
نشرت رواية \”الحرافيش\” عام 1977، وتنقسم إلى عشرة ملاحم تبدأ بـ\”عاشور الناجي\”، ثم \”شمس الدين\”، و\”الحب والقضبان\”، و\”المطارد\”، و\”قرة عيني\”، و\”شهد الملكة\” و\”جلال صاحب الجلالة\”، و\”الأشباح\”، و\”سارق النغمة\” إلى أن وصلنا إلى آخر ملحمة \”التوت والنبوت\”. وكل ملحمة منهم تم استخدامها كمادة للأعمال السينمائية والتلفزيونية الناجحة.
القلب الرابض بين هذه الأضلع الخور سيصبح ذات يوم مرتعا للحياة التي يكدر صفوها الشقاء بلا أدنى شك. فإنك حين تقف على الشاطئ، يعرف قلبك بأن هذه بدايتك، ولكنك حين تحلق بنظرك في الأفق الواسع لن تستطع أن تشاور مرة أخرى وتتفوه بالثقة نفسها أن عند هذه النجمة المتوارية خلف السحب المتبلدة ستتلاقى المصائر وتحل نهايتك. هكذا ظهر بطل الرواية الخرافي \”عاشور الناجي\” في ظل أحداث غامضة زاد من نبش حرمتها فحيح الأفاعي. كان\”عاشور الناجي\” رجلا عملاق، وله فك حيوان مفترس، وشارب مثل قرن الكبش، كانت قوة متسكعة فوق كارو بلا حيلة. رسالته هي تحقيق العدل وليس سواه، يرضيه أن يوازن بين الأعيان وحرافيش الحارة، أصبح بمرور الوقت رمزا للشهامة والأخلاق، حتى اصطفاه الله وأصبح من أوليائه الصالحين، هكذا ظن الخلق به. فأصبح \”عاشور الناجي\” فتوة الحارة وحاميها، وبينما تسير الحياة في مجراها الهاديء تعكر صفوها بغتة، فلم يعد من النهار إلا غباره، ولم يعد من الليل إلا ظلامه. استفحل وتفاقم الوباء، ابتلع كل شيء أمامه، وكأنه كتلة ثملة حطت على الجميع دون تمهيدات. تحولت حارة \”الحرافيش بين عشية وضحاها إلى قرافة، يسير فيها النعش وراء النعش، فيتواصل سيرهم الثقيل كطابور لا يوقف سريانه شيء.
\”ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترامى إلى آذانكم نباح الثكالى؟ ألم تشاهدوا النعوش وهي تحمل لصق سوركم؟\”
نادي \”عاشور الناجي\” برؤيته بأن يفر الجميع من \”الشوطة\” بحثا عن الحياة في الخلاء، ولكن ما اهتم بكلماته أحد، فقرر أن يغادر مع أسرته الصغيرة أرضا جديدة تنفيذا للرؤية، وأصبحت همسات الوحدة مع نشوة العودة تمتزج بألم في قدح واحد. بينما ظل الموت رابضا بأذرعته جاثما فوق أعناق الحرافيش. ولذلك لقب عاشور بإسم \”الناجي\” أي الوحيد الذي أفلت جلده من براثن الموت.
أضغط على أزرار الآلة الكاتبة وكأنها ستبعث منها الأنغام بدلا من أحرف داكنة تحيك وصفا \”للحرافيش\”، فإنها تشبه مقطوعة موسيقية تعلو بك بفجع الأفكار المحمومة في صورة نسر محلق ذي صرير يدك الأبنية حتى يهبط تدريجيا برقة وعذوبة.
البوظة مازلت مكتظة بالخلق كما هي، لم يتغير شيئا باختفاء \”الناجي\”، فمازلت معجزته هي الأسطورة الوحيدة التي لم يمل الحرافيش من التندر بها، كمخرج من الظلم الذين يكابدوه من طغيان أحفاده.
\”أعتقد أن الخلود لا يتاح للإنسان إلا بمؤاخاة الجن، الخلود واللعنة الأبدية. إلتحام الإنسان بالشيطان إلى الأبد\”
قيل سبب الفساد الذي تفشى بوحشية ضارية في \”الحرافيش\” هو الابتعاد عن أصول الفتونة من قبل سلالة \”الناجي\”، فمنهم من تزوج بامرأة منحرفة تعمل في البوظة، ومنهم من قتل أباه، ومنهم من هجر أهله وأسرته، ومنهم من أراد أن يحيا طيلة العمر فإقترن بالشياطين، ومنهم من نصب وقتل ونهب، ومنهم من استأثر بإتاوات الفتونة له وعصابته دون أن يراعي للفقير حقا.
لا توجد شخصية واحدة تتمحور حولها الأحداث، أو بطل حقيقي من لحم ودم يحمل على عاتقيه أحداث الملاحم العشر، بل إن \”عاشور الناجي\” ما هو إلا رمز وهمي للعدل والخلق النبيل والمساواة. فـ\”نجيب محفوظ\” إستطاع أن يرسم بأحداث حارة \”الحرافيش\” دولة صغيرة، تهيم في البحث عن حقوقها، منهمكة البال بين كل هذه القلوب الطالحة التي يثيرها المال وحب تملك العباد، في إيجاد قلب خاشع، وقوي، يستطيع أن يعيد لكل ذي حق حقه.
تدور أحداث الرواية بحي الحسين حيث تتجلي الفوارق الاجتماعية والأخلاقية، ففي أول الحارة تجد الكتّاب، وبمنتصفها تأتي التكية ليسلموا أنفسهم المرهقة إلى طنين الظلام المتجلط في العروق والجلوس في رحاب الأناشيد التي كتبت بالفارسية، حيث المعاني المجهولة التي تمثل الأفكار المذبذبة معتمة المعاني، وبآخرها نجد البوظة التي مثلت وكرا للدعارة وتمرد قلوب الطغاه، فكما كانت البوظة تضاعف شر الشرير، فهي تضاعف أيضا من طيبة الطيب. فإنحشر الحرافيش في طور جديد من أطوار الصعلكة والبؤس وتلاشت عذوبة أحلامهم في أثناء تنصيب فتوات طغاة لا يستطيعون كبح رغباتهم في سبيل تحقيق الفضيلة.
تمر الأحداث باختلاف الأجيال التي تنحدر من سلالة \”الناجي\” فيعانون قهر الظلم حينا ويحالفهم إنصاف العدل حينا آخر.
أخيرا، يقرر أهل الحارة أن يدرب كل أب، ابنه على الفتونة حتى لا يتسلط عليهم يوما وغد، وأن يتخذ كل واحد منهم حرفة أو عملا.
\”سيهب كل فتى نبوتا من الخيرزان وثمرة من التوت، استعدوا بالمزامير والطبول\”