محمد ممدوح يكتب: عفاريت الأسفلت

يوم 22 نوفمبر وفي الساعة الواحدة بعد الظُهر على طريق الأوتوستراد من المعادي الجديدة إلى مدينة نصر وبعد المرور على منطقة المدبح، توقف الطريق، حاولت أن أفهم ماذا حدث، أرسلت نظري بعيدًا على نزلة الكوبري من الإتجاه المُعاكس، كان هُناك حادث مأساوي على ما يبدو، رأيتهم يحملون أجساد لا أدري حية أم رحلت، تأفف البعض من توقف الطريق، بينما كُنت أُتابع أنا ملاك الموت وهو يجمع بعضا من الأرواح في جُعبته مُغادرًا ناحية السماء.

لم أختلف قط مع الموت يومًا، أُدرك أنه جُزء من اليقين الذي أحيا به، ولكن سخافة الوسيلة التي رحل بها أولئك كانت ما يؤرقني.
الميكروباص قد يبدو من الاسم إنه وسيلة مواصلات قد تستخدمه للذهاب إلى عملك وقد يكون طريقك أنت أو غيرك إلى السماء، كائن فولاذي ضخم يحتوي بداخل أحشائه على مُحرك ياباني يُقال إنه من الشركة العملاقة تويوتا يقوده مُراهق أو رجُل بأبعاد المُراهق النفسية ويحتوى تحليل دمه على النموذج القياسي لمُتعاطي المُخدرات، فكرة أنك قررت الذهاب إلى مكان ما بسيارتك مع أولادك وزوجتك أو وحيدًا ليُقرر أحدهم تغيير وجهتك بدون أي جُرم أو ذنب قد أرتكبته، هي الفكرة الأسخف على الإطلاق، خاصة أن وجهتك الجديدة تعني أننا لن نراك ثانية ولن ترانا أيضًا.
أربعة عشر ألف قتيل سنويًا هو الإحصاء الأسوأ لحوادث الطرق، حجم الخسائر الاقتصادية والمادية مُرعب، ولكن من يُبالي؟! فمن أثرياء بألعابهم الألمانية الضخمة، لفُقراء بوحوشهم الفولاذية العفنة، لمُشاة قرروا مُمارسة حقهم في عبور الأوتوستراد أو الدائري ليلًا وهُم يرتدون ملابس سوداء، يا قلبي لا تحزن، المنظومة بأسرها مُتهالكة بالقدر الكافي لتحقيق الكارثة المُنتظرة، قد يبدو الرقم للبعض طبيعيا أو عاديا، ولكن ما فقدناه من أرواح في الحروب لا يجرؤ على أن يتجاوز هذا المُعدل المُرعب، أكثر من ألف قتيل شهريًا!

تشترك ثلاثة عوامل رئيسية في تلك المأساة، العامل البشري والمركبات بمُختلف أنواعها والطرق، وللمُفارقة فإن الثلاثة عوامل في أسوأ الحالات، فالعامل البشري إما مُتعاطٍ للمُخدرات أو الكحوليات أو الأدوية المُسببة لقلة التركيز والاتزان، أو يتصفح الفيسبوك ويقوم بإجراء المُحادثات أثناء القيادة، أو في أفضل الحالات هو مُجهد ولم يحصُل على القسط الكافي من النوم، وإذا تحدثنا عن المركبات فالأمر يبدو جليًا لمن يُريد أن يرى، فأغلب وسائل النقل العامة في حالة مُتهالكة بسبب فقر برامج الصيانة الوقائية وعدم الإهتمام بها، بل والتغاضي أيضًا عن الأعطال وإهمال إصلاحها حتى تتسبب في كارثة أكبر، أما العامل الثالث فإنه لا يصح الحديث عنه، فالجميع يعلم ماذا تعني كلمة طريق في مصر! من الجدير بالذكر أن حتى الطُرق الرئيسية بين المُحافظات تحتوي على مطبات وحُفر كفيلة بإحداث الفارق المؤلم.

بالطبع لتجنب الحادث غير المرغوب، فأنت مُطالب باتخاذ كُل الإجراءات الوقائية المطلوبة للسيطرة على الأسباب التي قد تؤدي إلى الحادث، وهذا ما لا يحدُث، وإن حدث فيجب أن تكون على دراية بمواجهة الحادث وكيفية التعامُل معه، ولكن كُله ماشي في نور الله بيدعي ويقول يا رب، دون أي أخذ بالأسباب، فعلى جانبي الطريق أثناء الحادث كان الطريق متوقفا تمامًا، هُناك من أراد مد يد العون وهُناك من وقف ليُتابع ما يحدُث ولا بأس بأن يُمارس دوره كناصح أمين بيفتي في ما لا يعلم عنه شيئا! الأهم أن هذا الاختناق المروري سيمنع بالتأكيد وصول سيارات الإسعاف، فمن لم يُمت في الحادث مات من الانتظار نتيجة الاختناق المروري الذي صنعه المُتطفلون والمُتطوعون سويًا.

قد لا تعلم أن الشركات الأجنبية العابرة للقارات قبل أن تبدأ في أي مشاريع استثمارية في دولة ما، فإنها تقوم بجمع كُل المعلومات اللازمة عن تلك الدولة لمعرفة مدى المُخاطرة التي سيقومون بها إذا قاموا بالاستثمار في تلك الدولة، أحد أهم تلك المعلومات هي البنية التحتية، ومن ضمنها بالطبع شبكات الطُرق المواصلات ووسائل النقل المُختلفة والخدمات العامة والطاقة. ومن الجدير بالذكر أننا نبحث عن الاستثمار، عن توفير العُملة الصعبة، فهل سيحدُث هذا الاستثمار والوفر من العُملة الصعبة عن طريق وضع بضع إعلانات على الطُرق وحملات إعلانية في الراديو والتليفزيون؟!

الأكثر بؤسًا، هو ما بعد الحادث، فتكاليف الإصلاح للمركبات وقطع الغيار والاستبدال وخلافه، هي استنزاف قاتل للعُملة الصعبة، فعلى حد علمي نحُن دولة لا تُصنع السيارات أو قطع غيارها، فنحُن من الأصل لا نُصنع المُنتجات الغذائية ومُستحضراتها، تُستورد بالكامل من الخارج لسلاسل المطاعم العالمية والمقاهي الأشهر في مصر.

والآن، ما هو الحل؟

الحل يبدأ من إصلاح تلك المنظومة المُتهالكة، ليس فقط أحد عواملها، بل العوامل الثلاثة؟ فما فائدة أن يكون لديك أفضل طريق مع أفضل سيارة نقل، بينما القائد لا يُدرك أساسيات القيادة، أو أنه لم يتخط السن القانوني للسماح له بالقيادة أو أنه مُتعاطٍ للمُخدرات والكحوليات، وفي نفس الوقت يجب أن نُدرك أن العامل البشري محدود القُدرات، وأنه بفرض تعرضه لأفضل أنواع التدريب وصقل الخبرة والحالة الصحية البدنية والنفسية، ولكن السيارة ليست بخير حال وتحتاج إلى صيانة ومليئة بالأعطال أو أن الطريق مليء بالمطبات والحُفر، فأيضاَ النتيجة لن تكون مُغايرة وستكون هُناك حوادث.
سنة 2008 كُنت أُطالع التقارير الأجنبية الأكثر مصداقية مع زُملائي الأجانب، وكانت الأرقام مُرعبة إلى حد بعيد، حتى إن أحدهُم قال ساخرًا: \”هل أنتم في حرب أهلية؟!\”

الأرقام كانت ما يزيد عن أربعة مليارات جنيه سنويًا خسائر الاقتصاد المصري المُباشرة من حوادث الطرق، ما يزيد على السبعمائة مليون دولار تعويضات وتكاليف شركات التأمين، وعلى ما أذكُر احتوى التقرير العالمي من الشركة المُتخصصة على عبارة هامة تقول؛ \”هذه الإحصائيات قائمة على ما تم تسجيله من حوادث، ولكن هُناك العديد من حوادث الطرق التي لا يتم تسجيلها\”

حسنًا، هُناك من فقدوا ذويهم وأحباءهم في حوادث الطرق، أنا نفسي فقدت العديد من معارفي بسبب حوادث الطرق، ولكن دعونا نُحاول أن نُقلل حجم هذه الخسائر، وأرجوك إذا وجدت حادثة على الطريق لا تقف لتُشاهد، إذا كنت من المُختصين القادرين على المُساعدة، فيُمكنك أن تضع سيارتك في مكان لا يُعيق المرور، وقُم بالمُساعدة. إذا كُنت لا تستطيع، فأرحل عن مكان الحادث لرُبما استطاعت سيارة الإسعاف أن تصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top