مغر هو الحنين.. يريحك كثيرا في أوقات عصيبة.. تسترجع معه الجزء الأجمل من الحكاية كما يقول درويش، تستعيد من الأيام التعسة فرحتك الطفولية بهدايا الجد، وتنسى عقاب المدرس وتتماسك أحيانا وتزيف الذكرى وتقول مبتسما محاولا تقليد ما كان يقولوه الآباء: \” كانوا خايفين على مصلحتنا\”.
كبرنا على الملل من قصص الأجداد عن الماضي المليء بالخير.. حين كان الرغيف في حجم إطار السيارة، والتعريفة تشتري غداءا لأسرة كاملة.
جدتي تجلس على عتبة منزلنا القديم وتحكي لنا عن السواقي والخير والصحة التي كانت تجعلهم يمشون إلى المركز البعيد عن قريبتنا آلاف الأمتار ويعودون بلا تعب. أسقطت جدتي عامدة أسماء من ماتوا من الكوليرا أو سقطوا في الترع أو لفظوا أنفاسهم بعد العناء مع البلهارسيا.. صارت هذه أجزاء مستبعدة من القصص التي تحكي لنا ماض تريد العودة إليه هربا من الجزء الأسوأ والأكبر في حكايتنا الحاضرة.
يستيقظ الدكتور خالد منتصر صباح كل يوم.. يبحث في الأرشيف عن نساء يمشين مرتديات لباس قصير في الستينيات، يضعها في مقابل صورة لفتاة منتقبة تركب المترو.. لا يعرف الدكتور خالد أن منع النقاب أو منع الشورت ليست أدلة على أي شيء سوى أنه يتشارك ذات الشواغل مع شيوخ السلفية الذين يرون طول المكشوف من سيقان المرأة مقياسا لمدى تحقيقهم لما يحشون به رؤوسهم من أفكار ومعتقدات.
اجلس في أرشيف الأهرام أراجع أعداد أعوام الخمسينيات والستينيات بحثا عن كواليس حفلات أم كلثوم وأخبارها، فأجدني أمام عناوين: \”المؤامرة على الشعب العربي والإسلامي\” و\”الشعب يقول كلمته في الاستفتاء\”.. \”مؤامرة كبرى لإقصاء العهد الحاضر\” ، وأخيرا \”عبد الناصر يحذر من قوى الثورة المضادة\”.
مربكة نوستالجيا الستينيات.. تستعيد الإنتاج الأدبي والثقافي من موسيقى وأدب وأرشيف صحفي وإذاعي، فينفجر في وجهك المناخ السياسي وما حدث لنا ويحدث جراء ما رسخته ممارسات هذه العصر. يستبعد هذا من استدعاءات الذكريات والاحتفالات السنوية والحنين الجارف لعهود \”السيادة\” و\”القوة\”.. يفعله من يتحسرون على أيام ناصر وآخرون جرفتهم الموجة إلى صور الملك فاروق وحكايات السلطنة والقصر والحريم.
أما موجة أعتى من الحنين فظهرت في بدايات الألفية مع انتشار الإنترنت وظهور مواقع التواصل الإجتماعي.. كثيرون من المستخدمين اعتبروا ذلك منصات بدأوا عبرها في الإعلان عن شغفهم بالثمانينيات والتسعينيات..خرجت كتب، بعضها قدم انطباعات مختلطة عن المرحلة وأخرى حملت تمجيدا وحسرة على ما فاتنا.. فين أيام اللبان السحري وبرامج القناة الأولى.. وعمو فؤاد وتوزيعات حميد الشاعري؟! وانتشرت مقاطع برنامج إسعاد يونس – صاحبة السعادة – بعدما ارتبكت خارطة البرنامج لفترة، ثم استقرت على ذات الحقبة وإلقاء النظرة عليها مرة أخرى.
ظهر علي الحجار مع حنان ماضي، فانتشينا.. ثم استمر الأمر في محاولات لاستدعاءات أكبر، والتعامل مع حقبة متواضعة بنفس قدر الجدية وافتعال الشغف الذي يصاحب مراحل أخرى أكثر ثراءا في تاريخنا، بما فيها من تناقضات وأحداث – هذه المرة – مع إرضاء رغبات كثيرين في معرفة آثار الزمن على وجوه البشر لاسيما من أحبهم من فنانين.
الأغرب أن موجة الحنين للتسعينيات هذه مستمرة وتتصاعد، بينما سمير صبري يستعد لبدء برنامج جديد على فضائية، ونجوى إبراهيم على أخرى، وعزة مصطفى في فضائية ثالثة، وريهام سعيد تقدم نسخة عصرية من \”خلف الأسوار\”، والصحافة تمارس ذات دورها قبل ذلك في انتقاد الوزراء ومطالبة الرئيس أن يتدخل وألا يكتفي بالتقارير المغلوطة التي يقدمها له مساعدون يحجبون عنه الحقيقة!
لم يعد باقيا في هذه اللحظة سوى تدشين حملات لإرضاء هذا الشغف بالماضي القريب ليعود إلينا من جديد برنامج \”مرفوض وقابل للتعديل\” و\”بين الناس\” و\”الكاميرا في الملعب\”، بينما تعدنا حياة عبدون أننا لن ندير مؤشر حياتنا عن هذا العصر.