لماذا يعرف معظمنا حكايات سندريللا وسنو وايت والجميلة النائمة وغيرها من القصص الشعبية الأوروبية، ولا نعرف – أو نسينا – حواديتنا الشعبية؟
قد يبدو السبب لأول وهلة راجعا لأفلام ديزني الذائعة في العالم كله، والتي ربما فعلا تكون وراء شهرة هذه الحكايات الخيالية دون غيرها. لكن الفضل الحقيقي لمعرفتنا بهذه الحكايات يرجع للأخوين جريم والجهد الذي قاما به في القرن التاسع عشر بالتجوال بين قرى ألمانيا للاستماع إلى حواديت البيت التي ترويها النساء للأطفال لتسليتهم أوعلى سبيل التوعية والإنذار من مخاطر معصية نصائح الأهل.
لم يكتف الأخوان جريم بقضاء حياتهما في جمع هذه الحواديت الشعبية وتدوينها كما سمعاها، ولكنهما قاما بعملية تحرير وتنقيح وإعادة كتابة لهذه الحكايات التي تزيد عن المائتين. ولا يهمنا هنا مناقشة رؤيتهم أو دوافعهم القومية وراء هذا العمل، لكن من المفيد معرفة أن المنهج الذي اتبعاه كان توحيد الأسلوب اللغوي والحبكة الدرامية وإضافة ما يلزم لجعل الحكايات شيقة للأطفال في الزمن المعاصر لنشرها.
واستمرت التعديلات والاقتباسات حتى يومنا هذا من تلك الحكايات، حتى أن ما نراه اليوم في أفلام ديزني أو في الكتب الميسرة التي تصدرها دور النشر للأطفال يعد صورة مطهرة تماما من العنف والرعب وربما الجنس الذي وجد في الحكايات الأصلية.
نأت للجزء الثاني من السؤال. أين حكاياتنا الشعبية؟ والأهم – ماذا يصل لأطفالنا منها؟
لقد ورثنا في منطقتنا تراثا أدبيا من الحكايات يشبه ما ورثناه من أهرامات ومعابد وقلاع وجوامع أثرية، أشهرها حكايات ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ونوادر جحا. لكنها اليوم تكاد تكون مقصورة على الأدباء المتخصصين أو القرّاء الجاديين الذين يستطيعون الملاحة في هذه المطولات بمفرداتها التي تحتاج إلى شروح أطول. فنحن في حاجة متجددة دائما إلى كتّاب معاصرين موهوبين ليكونوا حلقة وصل بين هذا التراث الطلسمي وبين أطفالنا اليوم. مثل هذا الدور قام به كامل الكيلاني منذ ما يقرب من مائة عام بلغة ربما ناسبت عصره. كما قام به الشاعر طاهر أبو فاشا بنجاح كبير حين كتب المسلسل الإذاعي المقتبس من ألف ليلة وليلة بأسلوب جميل ظل عالقا في أذهان قدماء المستمعين. لكن.. إلى أين نتجه اليوم حين نريد أن نعرف أطفالنا بهذه الكلاسيكيات؟
يتألم بعض الآباء من الاقتباسات الغربية الحديثة لحكايات ألف ليلة، لأن أطفالنا التصقت في أذهانهم النسخة \”الديزناوية\” لعلاء الدين وعلي بابا و\”جاسمين\”، \”ولو أن بعض الاقتباسات الأجنبية كانت لطيفة ومصنوعة جيدا مثل مسلسل السندباد الذي أنتجه التليفزيون الياباني في السبعينيات\”. أما في الكتب، فقد قام مثلا مصطفى حسين برسومات جميلة لمجموعة من قصص ألف ليلة وليلة، لكن لم تعد نصوصها بنفس الجاذبية للأطفال الصغار.
لكن لماذا يقتصر الاهتمام أصلا -إن وجد- على هذه الحكايات الشهيرة التي جمعت وكتبت منذ مئات السنين، هل لأن النقاد والدراسين أعطوها صفة الأدب المهم؟ لماذا لم نهتم أيضا بجمع وتدوين وإعادة تقديم حكاياتنا الشعبية وحواديت البيت التي تناقلتها الأجيال عبر الجدات والمربيات؟ بعض هذه الحواديت مستقى أيضا من نوادر جحا وحكايات الف ليلة وبعضها تشبه حكايات جريم الأوروبية لكن بنكهة شعبية محلية، وبعضها مستقى من الملاحم الشعبية الأقدم، بل وربما من الأساطير والخرافات الفرعونية. وكثير من هذه الحواديت بالطبع من صنع الخيال الشعبي في الريف والحضر وسكان الصحراء، لكن المهم أن الأمهات والجدات، قمن بدور الناشر أو المحررة المعاصرة التي تختار وتنقح وتختصر وتستبدل ما تراه مناسبا ومفهوما ومفيدا ومسليا لأطفالها.
أين هي هذه الحواديت الآن؟ ومن منا لازال يحفظها أو يحكيها للأطفال؟
ست الحسن.. الشاطر حسن.. الخنفسا ست النسا.. فرط الرمّان.. بير زويلة.. الست الصغيرة الصغيرة.. العنزة بنت العنزة.. خششبان.. أم الشعور.. سليسلة وخنيفسة.
هذه بعض شخصيات الحواديت التي تذكرتها عضوات مجموعة \”حواديت الجدات\” على موقع فيسبوك، حيث يتم تدوين وتبادل تراث شفهي عائلي مهدد بالنسيان. اتضح في هذه التجربة مدى تعدد التنويعات في الحدوتة الواحدة، ومدى طرافتها وغرابتها وبؤسها أحيانا، ومدى صعوبة تذكر كل الحواديت التي سمعناها ونحن صغار.
لكن أخطر ما اتضح هو رأي بعض الأعضاء في هذه الحواديت، فرغم أنهم استمتعوا بهذه الحواديت – حين كانوا صغارا- إلا أنهم الآن يرون انها لا تصلح لأطفالهم لأنها مليئة بالعنف والدموية، وبها خرافات وسقطات غير منطقية، أو غير أخلاقية، أو لأنها تدعو للاستسلام للظلم والقدر أحيانا، أو للاتكالية والاستسهال أحيانا أخرى، وتساءلت إحدى العضوات عن فائدة هذه الحواديت لأنها تخشى من زرع مثل هذه الأمور في ذهن الأطفال!
في الواقع أن علماء النفس يؤكدون أن الحواديت الخرافية بكل ما تحتويه من عنف وتخويف ومصائب وأشرار هي مساحة آمنة وفرصة ممتازة للأطفال لاختبار مشاعر الخوف والوحدة والخذلان وخيبة الأمل والظلم وغيرها من المشاعر السلبية، إلى جانب استكشاف مشاعر المغامرة والجرأة والمواجهة والحب والتضحية. فالأطفال يولدون باستعداد طبيعي وكامل للشعور بكل المشاعر الإنسانية، غير أن هذه الحواديت تقوم – بشكل غير مباشر- بتجهيز وعيهم ونفسياتهم على مواجهة مخاطر العالم الحقيقي وصعوبات حياتهم فيما بعد، بل هي في ذلك أكثر أمانا من مشاهدة نشرات الأخبار هذه الأيام!
أما مسألة أن الحواديت أو أي محتوى إعلامي يتعرض له الطفل \”ينزرع\” فيه، فهي مبالغة تعارضها نتائج أبحاث العلوم الاجتماعية التي تهتم بتحليل رد فعل الجمهور لما يراه أو يقرأه. فقد أكدت دراسات كثيرة أن الفرد يمارس بعض المقاومة للنصوص التي يتعرض لها، فهو لا يقبل أو يوافق أو يصدق كل ما يعرض أمامه بالضرورة. والحماية الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن نقدمها لأطفالنا في هذا الزمن هو عقلية ناقدة قادرة على المناقشة والفرز والفحص والتمحيص.
وإلى أن يمن علينا الزمان بمن يقوم بإحياء حواديت البيت القديمة وإعادة تقديمها، مثلما فعل عبد الرحمن الأبنودي في السيرة الهلالية، ليس أمامنا سوى العودة لحواديت أبلة فضيلة والاعتماد على ذاكرتنا وذاكرة أمهاتنا. ولكن الذاكرة وحدها لا يعتمد عليها في الحفظ، لذلك ندعو كل من يتذكر حدوتة شفهية أن يدونها، ومن يحب الحواديت أن يساهم في جمعها. ومن يحب أن يكتب للأطفال من وحي هذه الحواديت أن يتوجه للأرشيف المصري للحياة والمأثورات الشعبية لمشاهدة التسجيلات التي جمعها باحثون في الفلكلور من مدن وقرى مختلفة، أو يتوجه للهيئة العامة للكتاب التي أصدرت موسوعة \”كتاب الحواديت\” العام الماضي.
الفكرة تحتاج مبادرة، والمبادرة تحتاج مشروعا، والمشروع يحتاج دعما وجهدا، لكن أرجوكم لا تنتظروا حتى يبدأ المشروع الكبير.. تستطيع أن تبدأ الآن بمشروع صغير مكون من حدوتة واحدة تحفظها عن جدتك.
الواقع أصبح يؤلمنا جميعا ونحتاج أكثر – من أطفالنا- لعالم الحواديت الخرافية لنختبئ فيه قليلا.