يُقال إنه بينما كان العدو على أبواب بيزنطة يهرس أسوارها بآلاته الحربية ونيرانه القوية، كان الشعب هُناك في الكنيسة جالس يتجادل حول ماهية جنس الملائكة وهل هُم إناث أم ذكور، وهكذا سقطت بيزنطة تاركة لنا مُصطلح من أهم المُصطلحات وأكثرها شيوعًا في الفترات الماضية وهو \”جدال بيزنطي\” أي جدال لا طائل من ورائه.
أرى الأمر نفسه يتكرر ولكن بصورة أُخرى مصرية خالصة، أعتقد أنه سيخلُد كمُصطلح هام في الفترة التالية أو في الحياة الثانية بعد المرور بما يحدُث بنا، وسيكون المُصطلح \”ألش مصري\”، فبينما العدو مُستخدمًا كُل أدواته وقواته وآلاته الحربية الخفية وأذرُعه الطائلة يعبث في مُقدرات تلك الأُمة، فإن الشعب المصري مشغول للغاية بالألش على الفيسبوك.
لم أكُن يومًا ضد فكرة السُخرية، بل أعتبر أن السُخرية وسيلة جيدة للتعبير عن الواقع المُعاصر، ولكن كيف تحولنا إلى هذا الأمر؟
في البداية كان الفيسبوك ومن بعده توتير ومن بعده أصبح الناس على تلك المواقع التي يُطلق عليها مواقع التواصل الاجتماعي كزبد البحر، أعداد لا تتناهى من الصغير للكبير، الكُل أصبح يحمل هاتفه الذكي ويُتابع ويُشارك ويُناقش ويُجادل ويسخر، والأكثر يُعيد نشر ويُبدي إعجابه بأحدث وأجمل الألشات، هذا الأمر لا بأس به على الإطلاق، بل إنه من الأفضل أن نلتحق جميعًا بركب التكنولوجيا وأن نقوم باستغلالها بالطريقة المُثلى لتحقيق الأغراض المُختلفة منها، فتلك المواقع هي التي سمحت لي أن أقوم بالتعبير عن رأيي وهي التي صنعت من البعض شخصيات عامة وهي التي أضافت للشخصيات العامة قناة إعلامية هادرة قوية لنقل أفكارهم وبث الأمل والأخبار وأيضًا بث اليأس والإحباط، إلا أنه ومع وجود العديد من المكاسب تأتي أيضًا العديد من الخسائر، فبينما كان الجميع ينتظر الأخبار والمقالات الرائدة سابقًا، نما على تلك المواقع العديد من الطحالب الساخرة التي لا تبحث إلا عن \”اللايكات والشير وأكتُب تعليق كي تصلك منشوراتنا\”، أصبح هُناك من يتباهى بأنه يمتلك عددا يُقدر بالآلاف من المُتابعين، بينما هو في الأصل فارغ المضمون ولا يُقدم سوى التفاهات.
حتى إن الأمر انقلب في الآونة الأخيرة، ومع القبضة الحديدية الدامية لأجهزة الأمن اختفى العديد من النُشطاء ذوي الحيثية، ومع انتشار الإحباط في أوساط أجيال 25 يناير ومع احتلال أجيال وعقليات سيدات نادي الصيد وهوانم جاردن سيتي لمواقع التواصل الاجتماعي، أضف إلى ذلك الكتائب الإلكترونية التي تُغرقنا بسيل لا بأس به من الهُراء المحض، لم نجد إلا الألش فقط كمُتنفس أخير.
وبينما قال فاروق جويدة \”إغضب فإن الأرض تحني رأسها للغاضبين\” كان هُناك من يؤسس لمذهب \”أألش يا معلم فإن الطريق للشهرة مُمهد للألاشين\”، وبين كلمات ذات مصداقية وقوة تستطيع أن تُحرك الصخر، وبين كوميديا سوداء تُحيط بنا من كُل جانب، ضاع أحد أهم مصادر انتشار الأفكار والنقاشات الجادة، فأضحيت أتخيل الشعب المصري كعجوز مُتصابيٍ لا يستطيع مُمارسة الجنس فيقضي وقته مُتصفحًا صور الفتيات العاريات مُتحسرًا على أيام الشباب التي ولت.
الجدير بالذكر أنه ظهر نوع آخر من المعارك بين الشباب، وهي معارك تُعرف باسم معارك التحفيل، وهي أن يكتُب أحدهم منشورًا لا يروق للآخر، فيقوم الآخر بالسُخرية منه والهجوم عليه، فينضم له أصدقائه، فيلتفت أصدقاء الآخر للهجوم، فيبدأوا بالهجوم المُضاد، وبالطبع لا مانع من الحديث عن الأعضاء التناسلُية للأُمهات أثناء ذلك النقاش المُنحط واستخدام ألفاظ ليست فقط خادشة للحياء، بل حارقة له ونافية لوجوده من الأصل، بل إن الأمر تطور وأصبح استخدام الألفاظ تلك علامة على (الشبحنة) كما يقولون، وعلى القُدرة على زعزعة ثوابت المُجتمع وكسر التابوهات المُتخلفة والنزول إلى الأرضية المُشتركة، وما إلى ذلك من السُفسطائية غير المُجدية على الإطلاق.
جُل ما أخشاه هو أن يعتقد البعض أن هذا المقال يُهاجم فكرة السُخرية أو ضدها.. هو فقط يُهاجم الإفراط فيها، الأمر الذي يُفقد الحادث نفسه أهميته، فعلى مدار اليومين الماضيين حدثت كوارث اقتصادية رهيبة قادرة على اقتلاع الأسُرة المصرية من جذور الاستقرار التي كانت دوما تصبو إليها مُلقية بها إلى جحيم السياسات النيو ليبرالية والرأسمالية التي لا تعرف عن الرحمة أو التضامُن الاجتماعي شيئًا، ولا تلتفت أو تنحاز إلا للأغنياء فقط، ومع ذلك لم نجد شيئا سوى السُخرية والكوميديا السوداء، اللهُم إلا ما نشره وائل جمال فقط مُحذرًا مما نخطو إليه.
إن أخطر ما يقوم به هذا الشعب أنه يواجه مُشكلاته بالسُخرية بدلًا من الغضب، السُخرية التي لا طائل من ورائها إلا بعض ابتسامات بسيطة ترتسم على تلك الشفاه العاجزة عن الحديث، العاجزة عن الصُراخ، العاجزة عن التقبل، والعاجزة حتى عن أن تقول لا في وجه من قالوا نعم فأضحوا مسوخًا أبدية الألم مع الاعتذار لأمل دُنقل.