حينما زار مجموعة من النشطاء المصريين الشمال السوري “المحرر” عقب اندلاع الثورة السورية، فوجئوا بتحويل الجيش السوري الحر (وبه نسبة كبيرة من الإسلاميين) المساجد إلى كتاتيب لتعليم الأطفال أصول الدين والحديث، بدلاً من الرياضيات والفيزياء والأحياء، وكذلك منعهم تعليم الفتيات. كانت تلك هي سوريا في ثوبها الجديد. محاكم شرعية وحكم إسلامي، وسعي نحو خلافة إسلامية عالمية.. من هنا كان لإعلان الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي إغلاق سفارة الجمهورية العربية السورية، وفتح باب الجهاد إلى سوريا في خطاب استاد القاهرة الشهير وقع الكارثة فيما بدا وقتها أنه تغيير جذري وواضح لمعالم الشرق الأوسط. تزامن ذلك مع وضع شائك في سيناء حيث الحاضنة الشعبية للسلفية الجهادية في الشيخ زويد والعريش المتاخمين لرفح وغزة وتماهي تلك المناطق مع الطبيعة الإخوانية للحكم في قطاع غزة، ما جعل سيناء مرشحة بقوة كي تكون مرتعاً للإرهاب (تحت سيطرة وربما رعاية الحكومة الإخوانية حال استمرارها ٢٠١٣ أو خارج سيطرة أي حكومة أخرى حال سقوط النظام الإخواني، وهو ما حدث تحديداً)، حينما اندلعت المظاهرات الحاشدة في ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وألقي بيان ٣ يوليو الذي اعتبره البعض قياماً للدولة المصرية بعد موت، واعتبره البعض الآخر سقوطاً مدوياً للدولة المصرية في براثن الانقلاب العسكري وخيانة من جانب وزير الدفاع آنذاك الفريق أول عبد الفتاح السيسي لقائده الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية المدني والمنتخب محمد مرسي، كان ضمن ممثلي كافة القوى السياسية التي اجتمعت بقيادات القوات المسلحة الدكتور محمد البرادعي المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية والسياسي المرموق.
كان البرادعي آنذاك هو تلك العصا السحرية التي يمكنها أن تحوّل الإنقلاب العسكري من خلال خارطة طريق إلى دولة دستورية مدنية ديمقراطية حديثة، فالبرادعي هو رجل المجتمع الدولي، وكان مديراً لمؤسسة دولية، ضالع في السياسة المصرية، وله بصمته الواضحة، يتحدث خطاباً يفهمه ويحبه الغرب، كما يجيد آليات الغرب في التعامل والإدارة والسياسة، البرادعي في الوقت نفسه على صلة مقبولة بالإخوان المسلمين، وله معهم صولات وجولات بعضها كان مناهضاً لألاعيبهم، ما أكسبه ثقة شعبية، وثقلاً سياسياً إبان الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المعزول محمد مرسي عقب نجاحه في الوساطة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، ونيله رضا الأمريكيين والإسرائيليين والمجتمع الدولي الذي رأى فيه زعيماً قادراً على تغيير مسار الشرق الأوسط من خلال تأثير التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
أقول إن البرادعي في الفترة ما بين ١٤ يوليو و١٤ أغسطس كان الشخصية التوافقية التي اتفق عليها الطرفان (مؤيدو الثورة/الانقلاب، مؤيدو الشرعية/الرئيس المعزول) إلى حد معقول، وللحظة بدت مساعي الوساطة مع مؤيدي الرئيس المعزول (بمشاركة قوى عربية وأجنبية على حد تعبير البرادعي في بيانه) على وشك النجاح. لكن هناك أمراً ما قد حدث، لا يعلمه أحد، أو ربما يعلمه البعض ويعجزون عن سرد روايته الحقيقية. البرادعي يقول، ويرد عليه محمد عبد العزيز.. البرادعي يحاول الابتعاد عن الأحرف الحادة قدر الإمكان، مستخدماً قدراً من الدبلوماسية بتعبيرات فضفاضة واسعة يجيدها، وعبد العزيز يرد بهجوم واضح حاد واصفاً ما يقوله البرادعي بالكذب. لكن هناك رواية ما تتسرب إلينا بين الروايتين أن هناك “أمرا جللا” كان يحدث في ذلك الوقت، وأن هناك “خطة أوسع” كانت تدبر، ما أن أحس البرادعي بأنه جزء من تلك الخطة وهو يعجز عن إدارة الدفة ناحية “خطته” أو “خطه السياسي” الشخصي حتى بادر بتقديم استقالته، وحزم أمتعته، وهجر السياسة والوطن عائداً أدراجه إلى أوروبا حيث يفهمون خطابه ويقدرون مواقفه. لا أحد قال لنا أو سيقول لنا ما حدث على وجه التحديد فدفع إلى الفض العنيف لاعتصام ميدان رابعة العدوية على هذا النحو.
لكن البرادعي “العصا السحرية” ما أن رحل عن النظام الجديد، حتى أصبح النظام “إنقلاباً عسكرياً” صريحاً من وجهة نظر العالم، ووقع في مرمى نيران المجتمع الغربي الحر المدافع دوماً عن الحرية والديمقراطية، على الرغم من الإرهاب الذي يحصد الأرواح، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يزيدها سوءاً تصرفات عشوائية وطفيلية وأنانية من جانب رجال الأْعمال والمواطنين الذين يستغلون عجز الحكومة، كذلك فهناك وضع إقليمي ملتهب ينذر بانتقال ألسنة اللهب لا قدر الله إلى الداخل المصري. بل إن توقيت بيان البرادعي في تلك اللحظات تحديداً وقبل تسعة أيام من التاريخ الذي حددته جهات مجهولة لاندلاع “ثورة” في مصر أسموها “ثورة الغلابة” يطرح أسئلة أكثر من الأجوبة.
يأتي بيان البرادعي أيضاً على خلفية عدد من الأحداث الدولية التي ترسم الخرائط الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، ففي أعقاب اجتماع وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وقطر وتركيا والأردن وإيران ومصر والعراق والمبعوث الأممي ستافان دي ميستورا في مدينة لوزان ١٥ أكتوبر الماضي لمناقشة الأزمة السورية، طالب وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بوقف الاشتباكات في مدينة حلب، ودعا إلى خروج جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) من حلب فوراً، في ظل صمت سعودي قطري، ما يشير إلى شكوك حول التفاهمات التي تمت في ذلك الاجتماع، وما يعني أيضاً أن روسيا تمكنت من تمرير طرحها بفصل المعارضة المعتدلة عن المعارضة المتطرفة، الأمر الذي قد يلقي بالمعارضة المتطرفة إلى سلة داعش فيتعامل معها التحالف الدولي، وبالمعارضة المعتدلة إلى مخالب الأسد للتعامل معها.
يأتي بيان البرادعي أيضاً عقب إعلان حلف شمال الأطلسي “الناتو” عزمه نشر أكبر حشد عسكري له منذ الحرب الباردة في البلطيق وشرق بولندا وتعزيز الوجود العسكري للناتو في البحر الأسود، لردع روسيا، في أعقاب تحريك روسيا ثلاث قطع بحرية ضمنها حاملة الطائرات “أدميرال كوزنيتسوڤ” إلى المتوسط في طريقها إلى سوريا، بعد عام ونيف من التدخل الروسي في سوريا، وبعد تغيير روسيا لموازين القوى على الأرض في سوريا. يأتي بيان البرادعي في ظل وضع متأزم في حلب، وعزم روسي سوري إيراني على إنهاء الصراع السوري في حلب تمهيداً لدخول الرقة عاصمة تنظيم داعش في سوريا، بالتوازي مع ما يحدث في الموصل من محاولات استرداد الجيش العراقي للموصل.
كما يأتي بيان البرادعي بعد تصويت مصر على مشروعي قرارين متضادين في مجلس الأمن روسي وفرنسي وتوتر في العلاقات المصرية السعودية، ثم إعلان رئيس أركان الجيش الليبي الفريق عبد الرازق الناظوري عن استعداد ليبيا لتزويد مصر بما ستقطعه عنها السعودية!! في حوار له مع اليوم السابع أشار الناظوري إلى أن الجيش الليبي يسيطر على ٨٠٪ من أراضي ليبيا، وأن ليبيا قد وكّلت مصر في السيطرة على الحدود بين البلدين… تقارب مصري مع جناح خليفة حفتر المناهض لحكومة الوفاق الوطني التي يدعمها الغرب والمجتمع الدولي.
يأتي بيان البرادعي عقب تغريدته عن “العنف المتبادل”، التصريح الذي يأتي على هوى الميديا الغربية عن مقتل جنود في سيناء إثر حادث إرهابي، والذي يذكرنا بتصريحات مشابهة في دول أخرى تحولت بعدها تلك الدول إلى حلبة لصراع دولي، ويأتي بيان البرادعي في ظل وضع إقليمي ودولي بالغ السيولة والتعقيد. فماذا يعني بيان البرادعي في هذا التوقيت بالذات؟ هل يعزف البرادعي ضمن أوركسترا عالمي يقسّم العالم بين معسكر للملائكة يضم الناتو والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية والسعودية وقطر وتركيا، ومعسكر آخر للشياطين يضم روسيا وسوريا وإيران ومصر؟ هل يأتي بيان البرادعي كجزء من تحضيرات لما يروجون له من “ثورة” في ١١/١١؟ أم أنه بالفعل آن الأوان لكافة الأنظمة الشمولية أن تحزم أمتعتها وترحل؟ وإذا كان الوضع كذلك، فهل هذه هي “الفوضى الخلّاقة التي بشّرونا به يوماً؟ ويجري الآن التحضير لفصولها الأخيرة.
بل قل: هل لم يعد هناك أي طريق لمواجهة هذه الفوضى الخلاّقة سوى طريق الارتماء في أحضان الأنظمة القمعية والزعماء التاريخيين؟ وكأن العالم بات عليه أن يختار بين خيارين: أحدهما أسوأ من الآخر.