منى يسري تكتب: "غوزيتا".. الوجه المظلم لمدينة النور

\”مدينة الحب والأمل\”.. هكذا قيل عنها، لكن لباريس وجها آخر لا يعرفه سوى الكادحين في الشوارع الخلفية لبريق \”الشانزليزيه\”.
\”غوزيتا\”، أحد تحف السينما الواقعية للأخوين داردرين، اللذين ساهما في السينما الفرنسية بالعديد من الأفلام التي كانت مرآة لواقع المجتمع الفرنسي غير المعروف للجميع.
الفتاة ذات السابعة عشر ربيعًا التي تحاول في إصرار الحصول على عمل يكفي قوت يومها، هي ووالدتها المدمنة على الكحول، في محاولات مستميتة لتحسين حياتهما معًا.
إصرار وتحديٍ:

يستهل المخرج فيلمه بفتاة تصارع مديرها في العمل، بينما يحاول طردها بعد انتهاء فترة التدريب، ويمنعها من الإستمرار برغم كفاءتها، إلا أنها تصارعه من أجل الإستمرار، يبادر بطلب الشرطة لإخراج الفتاة، بعد أن قام بما نسميه بالطرد التعسفي، في خضم نظام اقتصادي لا يرحم العمال والكادحين، وجدير بالذكر أن الفيلم تسبب في إعادة هيكلة قوانين العمل في كل من فرنسا وبلغاريا بلد الإنتاج، وهو الدور الأهم الذي تعمل به السينما الواقعية، وهو عرض الواقع كما يجب أن يراه الناس.
تناقضات حياتية:

تستأنف الفتاة حياتها بعد طردها من العمل في البحث عن بديل للخروج من الأزمة، إذ تسكن على الجانب الآخر من المحال التجارية الفخمة، والمنازل الفارهة، في أحد المجمعات السكنية للفقراء، حيث تقطن مع والدتها مدمنة الكحول، والتي تمارس الجنس مقابل الحصول على زجاجات الكحول، وبرغم غضب ابنتها التي تعمل جاهدة لتكفيها.

هذا الصراع الدائر طوال أحداث الفيلم بين الفتاة وأمها، الذي يوحي للمشاهد بحالة من الكراهية فيما بينهما، ولكنها حالة من الثورة والغضب على أم استسلمت للواقع، وابنة مازالت تواجه بكل صلابة

الأمل سيد الموقف:

بينما تُغلق الأبواب في وجه غوزيتا، لكنها تخرج كل صباح تدور على الحانات بحثًا عن فرصة عمل، في عالم يسحق الفقراء، بينما يعملون حتى تخور قواهم لصالح النظام الرأسمالي، الذي يقتات على عملهم ويقتل إنسانيتهم.


تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها:

هذا ما فعلته فتاة تسكن بمدينة ترّخص العمل بالدعارة، بينما لم يُطرح هذا العمل على قائمة حلولها بعدما أغلقت بوجهها كل الحلول، وهي تصد والدتها عن هذا الفعل.

وهذا المعنى يوضح أن الأخلاق إنما أمر ينبع من داخل الإنسان، وليس أمرًا تفرضه القوانين، أو تحدده الشرائع.


عندما أراني، أستطيع أن أراك:

في مشهد الرقصة بين البطلين، والذي لم تستطع \”غوزيتا\” أن تتفاعل مع الموسيقى، فأصابها الجمود، بل أوشكت على البكاء وكأنها استكثرت على نفسها المعذبة لحظات من المرح، بل أنهت روحها من كثرة الأعباء حتى أصبحت فاقدة للاستجابة لنداء الموسيقى.


حديث الروح:

وسط كل ما تعج به حياة الفتاة، من يأس وإحباطات، تصنع غوزيتا حديثا مع نفسها، يخفف حدة ألمها، ويؤنس وحشة وحدتها، ويصنع أملا لغد أفضل، تستطيع أن تستأنف به رحلة البحث عن الذات، حديثها هو سلوى لنفسها المعذبة.

في مشهد النوم، تستلقي الفتاة على فراشها، وتردد على نفسها بصوت مسموع ما تتمناه للغد وما ستحققه، وهو ليس بالكثير، لم تكن تحلم بحياة أكثر من الحياة!
مشهد الختام:

قد يبدو مشهد الختام باهتًا للكثيرين، لا يحمل نتيجة فعلية لما حدث للفتاة على مدار الفيلم، ولكن، دموع غوزيتا والتي تنهمر أخيرًا بعد عناء شاهدناه على مدار ساعتين، قد يبدو هو النهاية المثلى بالنسبة لفتاة لم تنه بعد طور طفولتها، وتواجه وحدها كل هذا العناء، بينما تمسك أسطوانة غاز إلى بيتها لا تقوى على حملها، وترفض أن يساعدها صديق، حتى تسقط أرضا في نوبة من بكاء لم يصدر عنها طيلة الفيلم، وكأنها ما عادت تقوى على حمل المزيد.

ينتهى ألم غوزيتا مع أحداث الختام.


أطروحة السينما الواقعية:

لا تقدم حلولًا بل تطرح مشكلات، تقوم بتجريد الواقع وعرضه دون أدنى تجّمل للجمهور، أو خلق حلول بديلة.
وهو ما فعله الفيلم بالفعل بعد أن أعيد النظر في قوانين العمل في كل من فرنسا، في تحدٍ صارخ لمن ينكرون قدرة السينما على التغيير الناعم، الأكثر سلمية، والأقل خسائر، تغيير مصحوب بالمتعة، الفهم الأكثر عمقًا، والخلود الأبدي لأصحابها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top